تتحرك إسرائيل في محيطها الإقليمي بوتيرة متسارعة، مدفوعة بعقيدة أمنية باتت أكثر اندفاعًا بعد السابع من أكتوبر، حيث تزامن التصعيد العسكري مع حديث متزايد عن إنشاء مناطق أمنية عازلة تتجاوز الخطوط الحدودية التقليدية.
هذه التحركات أعادت إلى الواجهة سؤالًا جوهريًا حول طبيعة الاستراتيجية الإسرائيلية الحالية، وما إذا كانت تنطلق من هواجس أمنية بحتة أم تعكس مسارًا توسعيًا طويل الأمد.
الخطاب الإسرائيلي الرسمي يقدم هذه السياسات باعتبارها إجراءات وقائية تهدف إلى منع تهديدات محتملة قبل وقوعها، بينما تنظر أطراف إقليمية وفلسطينية إلى المشهد بوصفه محاولة جديدة لفرض وقائع ميدانية بالقوة، مستندة إلى اختلال موازين الردع وغياب ضغوط دولية فعالة.
الأمن كمدخل لإعادة تعريف الحدود
في الرؤية الأمنية الإسرائيلية، لم تعد الحدود مفهومًا ثابتًا تحكمه اتفاقيات أو خطوط مرسومة، بل أصبحت متغيرة وفق مستوى التهديد.
هذا المنطق يعيد ترتيب الأولويات، حيث يتقدم الأمن على الجغرافيا، وتُمنح المؤسسة العسكرية هامشًا أوسع للتحرك خارج الحدود المعترف بها إذا اعتُبر الخطر قائمًا.
يستند هذا التصور إلى مقارنة بين جبهات تشهد استقرارًا نسبيًا نتيجة التزامات أمنية متبادلة، وأخرى تُصنَّف كمصادر تهديد دائم بسبب غياب السيطرة أو وجود فصائل مسلحة. في الحالة الثانية، ترى إسرائيل أن التدخل المباشر يظل خيارًا مشروعًا، حتى لو أدى إلى تغيير الواقع الحدودي القائم.
غزة بين العزل وإعادة الهندسة الأمنية
في قطاع غزة، يتجسد هذا التحول بوضوح من خلال السعي إلى إنشاء حزام أمني يفصل القطاع عن الداخل الإسرائيلي.
هذه المقاربة لا تكتفي بإعادة ضبط خطوط التماس، بل تعيد هندسة المشهد الأمني برمته، عبر تقليص مساحة الاحتكاك المباشر وخلق منطقة خالية من السكان تخضع لرقابة مشددة.
وتُسوَّق هذه السياسة باعتبارها استجابة لصدمة أمنية كبرى، إلا أن آثارها تتجاوز البعد العسكري، لتطال الواقع الإنساني والسياسي، وتُكرّس منطق الفصل القسري بدل البحث عن حلول دائمة.
الساحات الشمالية والشرقية.. الأمن بلا تسوية
على الجبهة اللبنانية، يرتبط التصعيد الإسرائيلي بمسألة السلاح خارج سلطة الدولة، حيث تُطرح المعادلة بوضوح: التهدئة مشروطة بنزع هذا السلاح، وإلا فإن الخيار العسكري يبقى مطروحًا.
هذا النهج يعكس قناعة بأن الردع لا يمكن ضمانه دون تغيير موازين القوة ميدانيًا.
أما في الساحة السورية، فتتعامل إسرائيل مع الجغرافيا بوصفها ساحة مفتوحة لتصفية التهديدات، مستفيدة من هشاشة الوضع الداخلي وتعدد القوى المسلحة. هنا، يتراجع أي حديث عن سيادة أو حدود لصالح مفهوم أمني مرن يبرر الضربات الاستباقية.
دولة بلا حدود أم حدود بالقوة
في المقابل، ترى القراءة الفلسطينية أن إسرائيل تتحرك وفق عقيدة توسعية قديمة تتجدد بأدوات جديدة، حيث تصبح الحدود حيث تصل القوة العسكرية.
هذا المنطق لا يقتصر على غزة أو الحدود الشمالية، بل يمتد إلى الضفة الغربية، التي تشهد توسعًا استيطانيًا متواصلًا يعكس مشروعًا جغرافيًا وديموغرافيًا متكاملًا.
وتحذر هذه الرؤية من أن الاعتماد على القوة وحدها لا يحقق أمنًا مستدامًا، بل يعمّق الصراع ويغلق أي أفق لتسوية سياسية، في ظل انزياح المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين وتراجع فرص الحلول التفاوضية.

