في شتاء 2010، خرج شاب تونسي بسيط ليشعل بموته شرارة أكبر موجة احتجاجات عرفها العالم العربي في العصر الحديث. لم تكن الثورة التونسية مجرد انفجار غضب اجتماعي، بل ولادة حلم جماعي بدولة الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. حمل الشباب الراية، وأسقطوا رأس النظام، وفتحوا بابًا واسعًا نحو مستقبل بدا آنذاك مشرقًا، لكن بعد أكثر من عقد، يقف التونسيون أمام واقع سياسي مأزوم، تتآكل فيه المكتسبات، وتتراجع الحريات، وتعود ملامح الحكم الفردي، ما يطرح سؤالًا صادمًا: هل أكلت السياسة ثمار الثورة التي سقاها الشباب بدمائهم وأحلامهم؟
كيف بدأ الربيع التونسي؟
وقالت مصادر إن تونس عاشت لعقود تحت حكم سلطوي صارم، بلغ ذروته في عهد الرئيس الراحل زين العابدين بن علي؛ نظام سياسي مغلق، وأمن متغوّل، وأحزاب صورية، وإعلام مكمم، مقابل واجهة استقرار هش.
وكان من ضمن أسباب الانفجار بطالة مرتفعة، خاصة بين الشباب وخريجي الجامعات، وفساد مستشرٍ، واحتكار للثروة، وغياب العدالة الاجتماعية بين الداخل والساحل، وانسداد الأفق السياسي. وجاءت حادثة إحراق محمد البوعزيزي لنفسه لتكشف هشاشة النظام، وتحوّل الغضب المكبوت إلى ثورة شعبية أطاحت بالرئيس في 14 يناير 2011.
حين امتلك الشعب صوته
ومثّلت الأيام الأولى بعد سقوط النظام لحظة نادرة من الإجماع الوطني. شعر التونسيون لأول مرة أنهم شركاء في القرار، وأن الدولة استعادتهم بعد عقود من الإقصاء.
ومن أبرز مكاسب المرحلة الأولى حرية التعبير والإعلام، والتعددية الحزبية، وانتخابات المجلس الوطني التأسيسي، ودستور 2014 الذي وُصف بالأكثر تقدمًا عربيًا. وفي تلك المرحلة، بدا أن تونس تسير بخطى ثابتة نحو ترسيخ الديمقراطية، رغم الصعوبات الاقتصادية والأمنية.
من الثورة إلى الصراع
وأوضحت المصادر أنه مع مرور الوقت، انتقلت الثورة من الشارع إلى أروقة السياسة، حيث بدأت الحسابات الحزبية تطغى على الأهداف الوطنية، وتحوّلت السياسة من أداة لتحقيق مطالب الثورة إلى ساحة صراع على السلطة، ما أفقد المواطن الثقة في الطبقة السياسية.
من وقود الثورة إلى هامش القرار
ورغم أن الشباب كانوا القوة الدافعة للثورة، فإنهم وجدوا أنفسهم خارج مراكز القرار بعد سنوات قليلة.
وضمن مظاهر التهميش ضعف تمثيل الشباب في البرلمان والحكومة، واستمرار البطالة وغياب فرص العمل، وهجرة متزايدة نحو أوروبا، وعودة الاحتجاجات الاجتماعية. ويرى كثير من الشباب أن الثورة سُرقت منهم، وأن النخب السياسية أعادت إنتاج منظومة الإقصاء بوجوه جديدة.
الحلقة الأضعف في المسار الانتقالي
ولم تنجح الحكومات المتعاقبة في تحقيق انفراج اقتصادي حقيقي، ما انعكس سلبًا على المزاج العام، من أزمات متراكمة، وارتفاع الدين العام، وتراجع قيمة الدينار، وتضخم وبطالة، وتدهور الخدمات الأساسية. وأصبح الاقتصاد عبئًا ثقيلًا على التجربة الديمقراطية، واستُخدم لاحقًا لتبرير العودة إلى الحلول الاستثنائية.
وشكّل دستور 2014 أحد أبرز ثمار الثورة، إذ كرس الفصل بين السلطات، وحمى الحقوق والحريات. لكن التطبيق العملي كشف غموضًا في توزيع الصلاحيات، وصراعًا دائمًا بين الرئاسات الثلاث، وتعطّل المحكمة الدستورية، وشللًا مؤسساتيًا متكررًا. هذا التعطيل ساهم في إضعاف الثقة في النظام السياسي ككل.
25 يوليو.. تصحيح مسار أم انقلاب على الثورة؟
وفي 25 يوليو 2021، أعلن الرئيس قيس سعيّد اتخاذ إجراءات استثنائية، شملت تجميد البرلمان وإقالة الحكومة، مستندًا إلى الفصل 80 من الدستور. وانقسم الشارع بين أنصار يرونها خطوة لإنقاذ الدولة من الفساد والفشل، ومعارضين يعتبرونها انقلابًا على الدستور ومكتسبات الثورة. ومهما كان التوصيف، شكّلت تلك اللحظة نقطة تحول أعادت تونس إلى مربع الحكم الفردي.
عودة السلطة الفردية.. خريف الحرية؟
ومع حل البرلمان، وتعديل الدستور عبر استفتاء محدود المشاركة، وتراجع دور الأحزاب، بدأت ملامح نظام سياسي مركزي تتشكل، مع مؤشرات مقلقة، منها التضييق على الإعلام، وملاحقات سياسية وقضائية، وإضعاف المجتمع المدني، وتركيز السلطات بيد الرئيس. ويرى منتقدون أن تونس دخلت مرحلة «خريف الحرية» بعد ربيع قصير الأمد.
ولعبت منظمات المجتمع المدني، وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل، دورًا محوريًا في حماية المسار الديمقراطي، لكنها تواجه اليوم ضغوطًا سياسية وتراجعًا في التأثير ومحاولات لتحجيم الدور الرقابي. ويبقى السؤال: هل ما زال المجتمع المدني قادرًا على حماية ما تبقى من مكاسب الثورة؟
سيناريوهات المستقبل
وكشفت مصادر أن السيناريو الأول هو ترسيخ الحكم الفردي، ويعني مزيدًا من التضييق، وعزلة دولية، واحتقانًا اجتماعيًا. أما السيناريو الثاني فهو تسوية سياسية جديدة عبر حوار وطني شامل، وإصلاحات اقتصادية، واستعادة التوازن بين السلطات. في حين يتمثل السيناريو الثالث في عودة الشارع، إذ قد يعود لاعبًا رئيسيًا في حال تفاقمت الأزمات.
وأكدت المصادر أنه رغم كل الانتكاسات، لم تمت الثورة التونسية، بل دخلت اختبارًا صعبًا؛ فقد أُسقطت الديكتاتورية، لكن بناء الديمقراطية أثبت أنه مسار طويل ومعقد.

