في خطوة وُصفت بأنها «قنبلة سياسية» أعادت ترتيب أولويات المشهد العراقي، أطلق رئيس الوزراء محمد شياع السوداني تصريحًا عالي النبرة، مؤكدًا فيه أنه «لم يعد هناك أي مبرر لوجود قوات التحالف الدولي والقوات الأجنبية على أرض العراق».
هذا الإعلان، الذي جاء في توقيت إقليمي ملتهب، يفتح الباب على مصراعيه أمام تساؤلات معقدة: إذا كانت الحكومة العراقية تعلن جاهزيتها الأمنية، فلماذا تصرّ القوات الأجنبية، وعلى رأسها القوات الأمريكية، على البقاء؟ وهل يمتلك العراق بالفعل القدرة الفنية واللوجستية لملء الفراغ الذي قد يخلّفه رحيل التحالف؟
السوداني والسيادة
استند السوداني في تصريحاته إلى التقارير الفنية الصادرة عن اللجان العسكرية العليا، والتي أكدت أن تنظيم داعش الإرهابي لم يعد يشكل تهديدًا استراتيجيًا للدولة العراقية، وأن القوات المسلحة العراقية، بمختلف صنوفها، اكتسبت خبرة ميدانية كافية لإدارة الملف الأمني داخليًا.
ويرى السوداني أن استمرار وجود القوات الأجنبية تحت لافتة «المستشارين» أو «التدريب» بدأ يتحول إلى عنصر استقطاب وتوتر، بدلًا من أن يكون عنصر استقرار، خاصة في ظل تحوّل الأراضي العراقية إلى ساحة لتبادل الرسائل الصاروخية بين أطراف إقليمية ودولية. لذا، فإن «قنبلة السوداني» تهدف بالأساس إلى سحب الذرائع من أي طرف يحاول المساس بالسيادة العراقية.
لغز الإصرار الأجنبي.. ما وراء محاربة داعش؟
على الجانب الآخر، تصرّ الولايات المتحدة ودول التحالف الدولي على أن مهمتها في العراق «لم تنتهِ بعد»، ويمكن تلخيص أسباب هذا الإصرار في نقاط جيوسياسية تتجاوز مكافحة الإرهاب:
ويمثل العراق بالنسبة لواشنطن نقطة ارتكاز استراتيجية لمراقبة التحركات الإيرانية في المنطقة، وضمان عدم اكتمال «الجسر البري» الذي يصل طهران بدمشق وبيروت.
ويرى البنتاغون أن انسحابًا مفاجئًا (على غرار سيناريو أفغانستان) قد يمنح خلايا داعش النائمة فرصة لإعادة تنظيم صفوفها، خاصة في المناطق الحدودية الوعرة. كما تخشى واشنطن أن يؤدي رحيلها الكامل إلى فتح الباب أمام نفوذ روسي أو صيني متزايد في العراق، سواء على الصعيد العسكري أو الاستثماري في قطاع الطاقة.
«الطرف الثالث» والتهديدات الإسرائيلية
أحد الأسباب التي تجعل ملف الانسحاب شائكًا هو ما كشفه السوداني مؤخرًا عن تلقي العراق تهديدات «عبر طرف ثالث» (يُعتقد أنها الولايات المتحدة نفسها) بشأن ضربات إسرائيلية محتملة.
وتصرّ واشنطن على أن وجودها في العراق يوفر «مظلة حماية»، أو على الأقل «قناة تواصل»، تمنع انزلاق العراق إلى حرب إقليمية شاملة. وفي المقابل، ترى القوى السياسية القريبة من «الإطار التنسيقي» أن هذا الوجود هو الذي يجلب التهديدات، وأن خروج القوات الأجنبية هو السبيل الوحيد لإبعاد العراق عن سياسة المحاور.
الجاهزية الفنية
بعيدًا عن الخطاب السياسي، تبرز عقبات فنية تثير قلق المتخصصين. فرغم قوة المشاة والخبرة القتالية، لا يزال العراق يعتمد على التحالف الدولي في مجالات حيوية، حيث يعتمد سلاح الجو العراقي بشكل كبير على المعلومات الاستخباراتية وصيانة الطائرات (مثل F-16) التي توفرها الشركات والخبرات الأمريكية، ولا تزال الحاجة قائمة لتقنيات التشويش ورصد الطائرات المسيّرة التي تمتلكها قوات التحالف.
لذا، فإن استراتيجية السوداني تركز على الانتقال من «التحالف الدولي» إلى «العلاقات الثنائية»، حيث يتم إبرام اتفاقيات منفصلة مع الدول لتوفير التدريب والصيانة دون الحاجة إلى قواعد عسكرية دائمة.
ما هي التبعات السياسية والاقتصادية للانسحاب؟
إن العلاقة مع واشنطن مرتبطة بحماية الأموال العراقية (إيرادات النفط) المودعة في البنك الفيدرالي الأمريكي، حيث يخشى البعض أن يؤدي «الإصرار على الخروج» إلى ضغوط اقتصادية أمريكية قد تؤثر على سعر صرف الدينار أو تفرض عقوبات على مؤسسات مالية عراقية، وهو ما يحاول السوداني تجنبه عبر «الحوار الهادئ» والجدولة الزمنية بدلًا من الطرد المفاجئ.
سيناريوهات المستقبل
تشير المعطيات إلى أن العراق وواشنطن يتجهان نحو اتفاق «وسطي» يتضمن إنهاء المهمة العسكرية للتحالف رسميًا، وتحويلها إلى علاقة أمنية ثنائية، والبدء بجدول زمني لإخلاء قواعد مثل «عين الأسد» و«حرير»، مع إبقاء عدد محدود من المستشارين في مراكز التدريب، وضمان ألّا يؤدي الانسحاب إلى اختلال في ميزان القوى يسمح لداعش أو لأي طرف آخر بزعزعة الاستقرار.
السيادة بين الممكن والمستحيل
وتبقى تصريحات السوداني «قنبلة سياسية» تهدف إلى إثبات أن الدولة العراقية استعادت عافيتها. فالإصرار الأجنبي على البقاء سيتصادم، عاجلًا أم آجلًا، مع الرغبة الوطنية في الاستقلال الكامل، وأن نجاح السوداني في هذا الملف سيعتمد على قدرته على إقناع واشنطن بأن «العراق الصديق والمستقر» من دون قوات أجنبية، أفضل للمصالح الأمريكية من «عراق مضطرب» تملأ شوارعه القواعد والاحتجاجات.
كما أن كلمة الفصل ستكون للجان الفنية في عام 2026، والتي ستحدد ما إذا كان العراق قد كسر فعليًا طوق الحاجة إلى التحالف الدولي، أم أن «الضرورات الأمنية» ستفرض بقاءً طويل الأمد تحت مسميات جديدة.

