مع كل ارتفاع في درجات الحرارة يقترب من نصف غليان الماء، يتجدد “كابوس الكهرباء” في العراق، ليتحول من مجرد أزمة خدمية إلى قضية أمن قومي ومعاناة يومية تثقل كاهل المواطن.
واقع الأزمة
حيث كشفت مصادر، أن العراق يعيش عجزًا مزمنًا في إنتاج الطاقة الكهربائية؛ فبينما تتجاوز الحاجة الفعلية في ذروة الصيف 35 ألف ميغاواط، لا يتخطى الإنتاج الفعلي في أفضل حالاته حاجز 24 إلى 26 ألف ميغاواط، هذه الفجوة تترجم سريًا إلى ساعات قطع طويلة تصل في بعض المحافظات إلى 18 ساعة يوميًا.
أسباب هيكلية وليست عارضة
وأكدت المصادر، أن تهالك شبكات النقل والتوزيع يُفقد ما يقرب من 30-40% من الطاقة المنتجة نتيجة قدم الأسلاك والمحولات والتجاوزات على الشبكة.
وقالت: إن التوسع السكاني غير المدروس أدى إلى زيادة الطلب السنوي بنسبة تتراوح بين 7-10% دون توسعة موازية في محطات التوليد، كما أن التغير المناخي أدى إلى ارتفاع درجات الحرارة يزيد من الضغط على المحطات ويقلل من كفاءة التوليد.
عقدة الغاز المستورد
وأوضحت المصادر، أن أغلب محطات التوليد الحديثة في العراق “المحطات الغازية” تعتمد بشكل كلي على الغاز لتشغيل توربيناتها. وهنا تكمن العقدة؛ فالعراق يستورد قرابة 40% من احتياجاته من الغاز من الجانب الإيراني لتشغيل محطات حيوية مثل “بسماية” و”المنصورية”.
لماذا يعد الاعتماد على الخارج “انتحارًا طاقيًا”؟
وأشارت المصادر، أن غالبًا ما تتأثر إمدادات الغاز بالخلافات السياسية أو العقوبات الدولية المفروضة على الدول المصدرة ، وواجه العراق مرارًا تعثرات في تسديد مبالغ الغاز بسبب تعقيدات التحويلات المالية بالدولار؛ مما أدى لتقليص الإمدادات بشكل مفاجئ.
ورغم أن العراق هو ثاني أكبر منتج للنفط في أوبك، ويمتلك احتياطيات هائلة من الغاز، ومع ذلك يحل في المرتبة الثانية عالمياً في “حرق الغاز المصاحب”، حيث تُهدر مليارات الأمتار المكعبة في الهواء بدلاً من استثمارها.
كلفة “اللامبالاة”
وترى المصادر، أنه لا تتوقف ضريبة الاعتماد على الغاز المستورد عند حدود الظلام، بل تمتد لتضرب ميزانية المواطن العراقي في مقتل حيث يضطر المواطن لدفع “فاتورتين”؛ الأولى لوزارة الكهرباء (رغم انقطاعها)، والثانية لأصحاب المولدات الأهلية بأسعار باهظة تخضع لجشع السوق السوداء للوقود وتتوقف المصانع الصغيرة والورش، مما يزيد من معدلات البطالة ويقلل من القوة الشرائية.
وقالت المصادر: إن الاعتماد على المولدات داخل المناطق السكنية يزيد من نسب التلوث البيئي والضوضائي، ويؤدي لانتشار الأمراض التنفسية.
هل من حلول في الأفق؟
هذا وقد تتحرك الحكومة الحالية في عدة مسارات لكسر حلقة التبعية للغاز المستورد، لكن النتائج تحتاج إلى وقت ونفس طويل منها استثمار الغاز المصاحب، فمشروع “نبراس” والتعاون مع شركات عالمية مثل (TotalEnergies) يهدف إلى تقليل حرق الغاز واستثماره محليًا وإذا نجح العراق في غضون 3-5 سنوات من تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغاز، سيوفر مليارات الدولارات سنويًا.
وضمن الحلول الربط السككي والطاقة المتجددة و الربط الخليجي والأردني الذي يهدف لتنويع مصادر الطاقة واستيراد الكهرباء بدلاً من الوقود فقط، مما يوفر استقرارًا نسبيًا للشبكة والطاقة الشمسية، حيث بدأ العراق بتوقيع عقود لإنشاء محطات طاقة شمسية، وهي حل مثالي لبلد يمتلك معدلات سطوع شمسي هي الأعلى عالميًا، لكنها ما تزال في مراحلها الأولى.
والحل الثالت هو الصيانة وتطوير الجباية وتحديث شبكات التوزيع واعتماد المنظومات الذكية والذي قد يقلل من الهدر الكبير في الطاقة ويضمن توزيعًا عادلاً بين المناطق.
الإرادة السياسية هي المفتاح
وترى المصادر، أن كابوس الكهرباء في العراق ليس “لعنة جغرافية” أو نقصًا في الموارد، بل هو نتيجة تراكمات من سوء الإدارة والارتهان للخارج، والذي دفع المواطن العراقي ضريبة غالية من رفاهيته وصحته وأمواله نتيجة هذا الاعتماد و الحل لا يكمن في بناء محطات جديدة فحسب، بل في “سيادة طاقية” تبدأ من حقول الغاز في البصرة وميسان، وتنتهي بتحديث أصغر محول كهربائي في أزقة بغداد. فهل تنجح الخطط الحالية في إنهاء عصر “الظلام المستورد”؟

