تعيش تونس واحدة من أهم مراحلها في إصلاح منظومة الطاقة، بعد أن وافق البرلمان على قانون جديد يهدف إلى تعزيز استقلالية الهيئة الوطنية لتنظيم الطاقة، في خطوة تُعدّ من أبرز شروط البنك الدولي لاستمرار دعمه المالي والهيكلي لقطاع الطاقة في البلاد.
ورغم الجدل الذي رافق تمرير القانون، تعتبر الحكومة أن هذا المسار يشكّل ضمانة للشفافية وجذب الاستثمارات الأجنبية، في حين يرى مراقبون أنه يمثل محاولة من تونس لإقناع البنك الدولي بجديّتها في تنفيذ إصلاحات طال انتظارها.
فاتورة الدعم وشروط التمويل الدولي
تُعاني منظومة الطاقة في تونس منذ أكثر من عقد من أزمة مركّبة، إذ تجاوز العجز الطاقي 50% خلال السنوات الأخيرة، نتيجة ارتفاع الاستهلاك وتراجع الإنتاج المحلي من الغاز والنفط.
وتأتي استقلالية تنظيم قطاع الطاقة كأحد المحاور الرئيسية في خطة الإصلاح، لما تمثله من خطوة نحو حوكمة شفافة تقلّل من التدخلات السياسية في التسعير والاستثمار.
وقد نصّ القانون الجديد، الذي صادق عليه البرلمان التونسي في أكتوبر الماضي، على تحويل الهيئة الوطنية لتنظيم الطاقة من جهاز تابع لوزارة الصناعة والطاقة إلى هيئة مستقلة ماليًا وإداريًا، تتمتع بصلاحيات كاملة في مراقبة السوق، وتنظيم الأسعار، والترخيص للمستثمرين.
الضمانات التي قدمتها تونس للبنك الدولي
قدّمت تونس مجموعة من الضمانات الفنية والتشريعية والمالية لضمان نجاح استقلال الهيئة الجديدة، حيث وافقت الحكومة على تخصيص ميزانية مستقلة للهيئة من عائدات الرسوم الطاقية، بعيدًا عن الخزينة العامة، بما يمنحها مرونة في إدارة مواردها دون وصاية من وزارة المالية.
كما أقرّت الحكومة آلية لاختيار أعضاء مجلس الإدارة عبر لجنة مستقلة تضمّ ممثلين عن البرلمان، ومنظمات المجتمع المدني، وخبراء في الطاقة، لضمان الشفافية في التعيينات ومنع تضارب المصالح.
كذلك التزمت الحكومة بتفعيل منصة إلكترونية مفتوحة تنشر بيانات الإنتاج والاستهلاك والأسعار بشكل دوري، تماشيًا مع معايير البنك الدولي في الإفصاح العام.
وأوضحت المصادر أن هذه الضمانات جاءت ضمن مذكرة تفاهم محدّثة بين تونس والبنك الدولي، تُعدّ بمثابة خريطة طريق لإصلاح شامل لقطاع الطاقة، وتمكّن تونس من الحصول على قروض جديدة بشروط ميسّرة خلال العامين المقبلين.
أبرز المخاوف الداخلية
تخشى الأوساط الاجتماعية أن يؤدي رفع الدعم إلى ارتفاع أسعار الكهرباء والوقود، ما قد يثقل كاهل الطبقات الفقيرة والمتوسطة.
وردًّا على هذه الانتقادات، أكدت الحكومة أن الهيئة المستقلة لن تتخذ قرارات تسعيرية بمعزل عن الدولة، وأن أي تعديل للأسعار سيُنفَّذ تدريجيًا وفق آليات تعويض اجتماعي واضحة.
استقلالية التنظيم بين الإصلاح والاختبار
اختتمت المصادر بالتأكيد على أن القانون الجديد واستقلالية الهيئة يمثلان خطوة شجاعة نحو حوكمة رشيدة، لكنهما في الوقت نفسه يشكّلان اختبارًا حقيقيًا لقدرة الدولة على التوفيق بين متطلبات الإصلاح وضغوط الشارع.
وتبقى الضمانات المقدَّمة للبنك الدولي ليست مجرد وثائق إدارية، بل التزامًا سياسيًا طويل الأمد يعكس مدى استعداد تونس لطيّ صفحة التحكم السياسي في قطاع الطاقة.

