تشهد لبنان أزمات سياسية واقتصادية طاحنة، أججها تقرير صندوق النقد الدولي بعنوان “لبنان على مفترق طرق خطر”، الذي رأى أن التقاعس عن اتخاذ إجراءات مطلوبة من شأنه أن يدخل البلاد في أزمة لا نهاية لها، في إشارة واضحة إلى عمق الانهيار الذي يواجهه لبنان، حتى برز تحد جديد قد يفاقم الأزمة ويأخذ البلاد إلى عزلة مالية شاملة؛ إذ ينتظر لبنان التصنيف الذي ستصدره مجموعة العمل المالي (Financial Action Task Force) (FATF)، الذي يعنى بمراقبة عمليات تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وهي من أخطر التصنيفات لجهة التأثير في المصارف المراسلة في العالم.
وبناء على القوانين الدولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، تصنف المنظمة الدول ضمن خمس فئات؛ إذ تضم الأولى (القائمة السوداء) الدول المرتفعة المخاطر، وهي التي لديها أوجه قصور إستراتيجية في نظام مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وانتشار التسلح، التي تدعو مجموعة العمل المالي جميع الدول الأعضاء إلى اتخاذ تدابير مضادة بحقها، وفقا لموقع “الإندبندنت” البريطاني.
أما الفئة الثانية (القائمة الرمادية) فتضم الدول الخاضعة للمتابعة المتزايدة، التي تعمل مع مجموعة العمل المالي لمعالجة أوجه القصور، وتتعهد باتباع خطة العمل المحددة لديها. وتضم الفئة الثالثة الدول الخاضعة للعقوبات من قِبل مجلس الأمن، أما الفئة الرابعة فتضم دول الملاذات الضريبية، في حين تضم الفئة الخامسة الدول المصنفة الأعلى بجرائم الفساد المالي.
وبحسب أوساط اقتصادية نقل عنها الموقع البريطاني، فإن تصنيف تلك المنظمة الدولية يتأثر بشكل مباشر بتقارير صندوق النقد الدولي الذي أشار إلى ثلاث نقاط بالغة الخطورة بأن لبنان وسع نطاق الاقتصاد غير المنظم، ويسارع الانتقال نحو “الدولرة” النقدية التي لا تمر عبر المصارف، وارتفاع في أخطار العمليات غير الشرعية، الأمر الذي قد يكون دفعاً حاسماً في زيادة احتمال خفض تصنيف لبنان إلى القائمة الرمادية أو حتى القائمة السوداء، في التقرير المتوقع صدوره شهر مايو 2023.
وتجدر الإشارة إلى أن آخر تصنيف صدر عن الـ FATF، أبقى على تصنيف كل من إيران وكوريا الشمالية ضمن القائمة السوداء، فيما علق عضوية روسيا، في حين أزيلت المغرب من اللائحة الرمادية، الأمر الذي سينعكس تأثيراً إيجابياً في التصنيفات السيادية وتصنيفات البنوك المحلية، فضلاً عن تعزيز صورة المغرب مع المؤسسات المالية الدولية.
وتكمن مخاوف تصنيف لبنان على القائمة الرمادية أو السوداء، بالأضرار التي قد يخلفها نتيجة لاعتباره بلداً غير ممتثل للمعايير الدولية في نظامه المالي؛ الأمر الذي يفقد ثقة البنوك الدولية المراسلة، التي بالأساس أوقف عديد منها تعاملاته المالية مع لبنان خلال الأزمة ولم يتبقَّ سوى ثلاثة GP Morgan، City bank وstandard chartered.
وفي هذا السياق، يعبر مصدر في مصرف لبنان عن قلقه الشديد من التقرير المرتقب الذي برأيه سيكون له تداعيات خطرة جداً على مستوى التحويلات المالية والاستيراد والتصدير، مشيراً إلى أن المعيار الأساسي الذي يضع لبنان في هذا الموقف هو تحول الاقتصاد إلى نقدي بنسبة 75% نتيجة لفقدان المصارف وظائفها الأساسية في تتبع حركة الأموال في البلاد.
ويلفت إلى أن الهامش العالمي للكتلة النقدية المتداولة في الأسواق خارج الأنظمة المصرفية يتراوح بين 15 إلى 20% بأقصى الحدود، كاشفاً عن أن نمو اقتصاد الظل بنسبة تتجاوز حجم الاقتصاد الرسمي بأضعاف، يؤدي إلى فقدان قوانين مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب لدورها وتتحول البلاد إلى ملاذ مفتوح لتبييض الأموال واختراق النظام المصرفي العالمي.
ويستبعد إدراج لبنان حالياً على اللائحة السوداء انطلاقاً من تفهم المجتمع الدولي لخطورة الأزمة اللبنانية، إضافة إلى استمرار المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وتعهد لبنان القيام بالإصلاحات المطلوبة، بالتالي قد يدرج على اللائحة الرمادية كإنذار أخير وتحفيزاً للإسراع بالتعهدات.
وكان واضحاً منذ بداية الأزمة في لبنان أن النظام المصرفي يتقلص بشكل ملاحظ؛ إذ أقفلت البنوك ما يقارب 20% من فروعها وصرفت حوالى 30% من العاملين في القطاع، في المقابل شهد قطاع الشركات المالية فورة ملحوظة؛ إذ ظهرت عشرات الشركات الجديدة وتوسعت فروعها في مختلف المناطق اللبنانية الأمر الذي يثير قلق الخبراء الاقتصاديين الذين يعتبرونها ظاهرة غير صحية وجنوح البلاد نحو اقتصاد “مارق”، كون معظم تلك الشركات المالية غير خاضعة للرقابة الرسمية وقوانين مكافحة تبييض الأموال.
وفي هذا الإطار، أوضح رئيس إحدى تلك الشركات أن الأزمة المصرفية دفعت المواطنين للتوجه إلى الشركات المالية لتسيير أمورهم المالية؛ الأمر الذي أدى إلى ازدهار القطاع، وهذه الشركات تلتزم تطبيق جميع قرارات وتعاميم مصرف لبنان وتخضع للجنة الرقابة على المصارف وهيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان.
كما أكد خبير مالي أن لبنان وقطاعه المصرفي سيكون بنداً أول على جدول أعمال مجموعة العمل المالي FATF لدراسة الاتهامات الموجهة لمصارف لبنانية عدة وعبرها لمصرف لبنان، كون لبنان كدولة قد شارك وساهم في تأسيس هذه المجموعة ووقع على مبادئها وأهدافها وآليات عملها ومعايير النزاهة التي تضمنتها.
وبرأيه فإن توسع نشاط مؤسسات تمارس العمل المصرفي من دون ترخيص أو من دون إذن مزاولة مهنة العمل المالي التي يصدرها عادة مصرف لبنان، مثل مؤسسة “القرض الحسن” التي يديرها “حزب الله”، يعرض البلاد للعقوبات ولخفض التصنيف كون المؤسسة التي تمارس هذه الأعمال من دون ترخيص ومن دون رقابة هي مؤسسة معرضة بشكل كبير لعدم ممارسة الشفافية والنزاهة في الأعمال المالية.
في المقابل لطالما ترد جمعية “القرض الحسن” على الاتهامات الموجهة إليها بأنها حاصلة على ترخيص لإعطاء القروض من وزارة الداخلية اللبنانية عام 1987 بموجب علم وخبر 217/ أ.د، وهي على غرار عديد من الجمعيات الموجودة في لبنان التي تعطي قروضاً من دون رخصة من مصرف لبنان، وهي تستقطب المساهمات وتوظفها كقروض للمواطنين الذين يحتاجون إليها، وتراعي القوانين ولا تخل بالشفافية.