تعمل الجماعات الإرهابية دائمًا على تغيير استراتيجيتها وجلدها، لا سيما المرتبط بالاستهدافات، بما يتلاءم مع واقعها التنظيمي والجغرافي وتحقيق أهدافها التكتيكية والاستراتيجية، وفقاً للتحولات التنظيمية والفكرية.
وفي دراسة حديثة نشرها مركز “تريندز للبحوث والاستشارات”، تناولت أولويات التنظيمات الإرهابية في الشرق الأوسط، بيّنت أنّ التنظيمات الإرهابية شهدت تحوّلات واضحة فيما يتعلق بأولويات الاستهداف، إذْ لم تعد أولويات هجماتها منصبّة على القوات الحكومية وعناصر الأجهزة الأمنية فحسب، فقد تراجعت تلك الأولوية لصالح أولويات أخرى فرضتها مجموعة من التحولات التنظيمية والفكرية، تزامناً مع رغبتها في تكريس نفوذها وتعزيز وجودها على الساحة، واستقطاب عناصر إرهابية جديدة.
وأكدت الدراسة أنّ التنظيمات الإرهابية تتخلى بشكل مؤقّت عن بعض الأولويات التقليدية مثل؛ أولوية استهداف العدو القريب بالنسبة إلى التنظيمات المحلية، أو أولوية استهداف العدو البعيد بالنسبة إلى تنظيم القاعدة في الماضي، ولذا يمكن القول إنّ التنظيمات الإرهابية باتت تتجاوز أولوياتها الفكرية من أجل مصالحها التنظيمية تكريساً لحالة الانفلات في المناطق التي تنشط بها.
وهو لا يعني أنّه ليست لديها أهداف أخرى تنصبُّ عليها هجماتها الإرهابية، ولكن المقصود أنّ التوسّع الجغرافي وتزايد القدرات التنظيمية دفعها إلى تغيير أولويات الاستهداف بما يتلاءم مع واقعها التنظيمي والجغرافي وتحقيق أهدافها التكتيكية والاستراتيجية وفق ما أظهرت الدراسة.
وأوضحت الدراسة أبرز ملامح التحولات التنظيمية للمجموعات الإرهابية، وأوّلها تحوُّل القوة التنظيمية إلى الفروع، حيث إنّ معظم التنظيمات الإرهابية الموجودة على الساحة، برغم كونها فروعاً لتنظيمات أخرى عابرة للقارات، غير أنّها صارت تمثِّل الثقل التنظيمي والفكري لها، نظراً لتراجع التنظيمات المركزية، بسبب الضربات القوية التي تعرضت لها طَوال الأعوام الماضية، ممّا جعلها تبدو أقرب إلى القيادة الرمزية أو الشرفية التي تلتفُّ حولها الفروع منعاً للانقسام والتفرّق، على غرار تنظيم القاعدة الذي أصبحت فروعه تمثّل ثِقله التنظيمي؛ من قَبيل جماعة نصرة الإسلام والمسلمين وحركة الشباب المجاهدين في الصومال.
وكذلك بالنسبة إلى منافسه وغريمه اللدود تنظيم داعش، الذي انتقل ثقله التنظيمي إلى فروعه المختلفة، من قَبيل ولاية غرب أفريقيا، وولاية وسط أفريقيا، وولاية خراسان في أفغانستان، وأصبحت تلك الفروع تمثل القوة الضاربة للتنظيم، بعد انهيار خلافته المزعومة في العراق وسوريا.
ومن أبرز ملامح التحولات تزايُد نفوذ وطموح قيادات الفروع؛ إذ أسهمَت عمليات التوسع الجغرافي والانتشار التنظيمي لفروع القاعدة وداعش في تزايد دور قادتها، وباتت تدرك أنّها تتمتع بالقوة والنفوذ أكثر من قيادات التنظيمات الأم، نظراً لكونها تقود تنظيمات لديها قدرات تنظيمية وعسكرية وأعداد بشرية كبيرة، تمكّنها من شن هجمات نوعية لا يمكن للتنظيمات الأم أن تقوم بها.
وهو ما يشجّع قادة الفروع على تعزيز مكانتهم التنظيمية ودورهم القيادي عبر شنِّ هجمات غير تقليدية، تتسم بالعنف والدموية، وذلك على أمل أن تستقل تلك الفروع في يوم من الأيام عن التنظيمات المركزية وتتحوّل إلى تنظيمات مستقلة، أو حتى ترث التنظيم الأم إذا ما جرى القضاء عليه نهائياً، فعلى سبيل المثال، طرحت بعض الاتجاهات داخل تنظيم القاعدة تصعيد أحد قادة الفروع الرئيسية في منصب زعيم التنظيم، بعد مقتل الظواهري، وهو ما يعني نقل مقر القيادة المركزية إلى خارج أفغانستان.
وذكرت الدراسة أنّ التنافسات العِرقية داخل التنظيمات الإرهابية تُعدّ من أبرز ملامح التحولات، حيث دائماً ما يصاحب ظهور التنظيمات المتطرفة سيطرةٌ جنسيةٌ أو عِرقيةٌ معيّنةٌ عليها، وهو ما بدا بشكل واضح مع ظهور جماعة الإخوان عام 1928، حيث كانت هناك سيطرة واضحة للمصريين، ليس على الجماعة فحسب، وإنّما أيضاً على فروعها الخارجية، من خلال ربطها بما يُسمّى بالتنظيم الدولي، الذي كان بدوره يسيطر عليه المصريون، وفي إطار سعي القيادات المصرية للسيطرة على الجماعة وفروعها، كانت تُقصي كل من يحاول الخروج على هذا التقليد مطالِباً بضرورة إتاحة الفرصة لقادة فروع الجماعة من الجنسيات الأخرى لتولي منصب مرشد الجماعة أو حتى قائد تنظيمها الدولي.
وعلى هذا النهج، سار تنظيم القاعدة الأم، حيث كان يسيطر عليه المصريون، وفي مقدمتهم الظواهري، حتى مع وجود أسامة بن لادن، إذْ كان الظواهري يقود التنظيم من خلف الستار، من خلال سيطرتهم على مفاصله التنظيمية ولجانه العسكرية والشرعية والأمنية، وحتى الاقتصادية منها، حيث كان هناك تعمّد واضح منذ البداية لإقصاء العناصر غير المصرية من المناصب القيادية الحسّاسة، إذْ كانت تُوكَل إليهم الأعمال القتالية التقليدية وجمْع المعلومات والخِدْمات اللوجستية وغيرها من الأعمال المشابهة.
وكذلك فعل تنظيم داعش الإرهابي أيضاً، فمنذ أن أعلن عن دولته المزعومة في سوريا والعراق، ظلّت هناك سيطرة شبه كاملة للعناصر العراقية، حيث كان التنظيم يقصي الجنسيات الأخرى، وخصوصاً السورية منها، من المناصب الرئيسية مثل اللجان العسكرية والاستخباراتية والاقتصادية، وهو ما أدى إلى تحوُّل جزء كبير من هجمات التنظيم إلى هجمات ضدّ الدولة العراقية، لكون ذلك يخدم مصالح تلك القيادات ويدعم نفوذها في مسقط رأسها، خصوصاً بعد أن شكّل العراقيون القوام الرئيسي في بناء دولته المزعومة.
وحدّدت الدراسة مجموعة من العوامل التي يتوقف عليها تحديد أولوية الاستهداف لدى التنظيمات الإرهابية، مثل حرية الحركة على الأرض، وطبيعة التنظيم وأهدافه، والقدرات والإمكانات المتاحة، والتحالفات التنظيمية، وحدود الترابط التنظيمي.
ومن أبرز التحوُّلات في أولويات الاستهداف، وفق الدراسة، أنّ التنظيمات الإرهابية التقليدية دائماً ما كانت تضع الأهداف الحكومية والأمنية على رأس أولوياتها، بدعوى وجوب إسقاط الحكومات التي لا تحكم بالشريعة الإسلامية، وإقامة الدولة الإسلامية المنشودة، غير أنّ التحولات التي شهدتها تلك التنظيمات جعلتها تغيِّر من أولويات استهدافها، طبقاً للواقع والبيئة المحيطة بها ونوعية أهدافها المرحلية والتكتيكية، وتوضع تلك المتغيرات في الاعتبار عند تحديد الأهداف المراد الوصول إليها، وهو ما يعني الحرص على تنفيذ العمليات بناء على المعطيات الموجودة على الأرض.
ومن أبرز التحولات الأهداف الأممية، فقد شهدت الأعوام الماضية تصاعداً ملحوظاً في استهداف المجموعات الإرهابية للقوات الأممية، وربما يفسر هذا الهجمات شبه المستمرة التي يشنها تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في منطقة الساحل الأفريقي وتستهدف بشكل كبير جيوش القوات الأممية المرابطة في تلك المنطقة، على غرار هجومه على إحدى دورياتها في مدينة تمبكتو (شمال)، في منتصف ديسمبر 2022، وهو ما أسفر عن مقتل جنديين، وفي هذا السياق كانت جماعة (نُصرة الإسلام والمسلمين) قد أصدرت بياناً نهاية عام 2022، على موقع الزلاقة، وهو أحد الأذرع الإعلامية للقاعدة، حمل عنوان “قوات بعثة الأمم المتحدة في شباك المجاهدين” أعلنت الجماعة خلاله استمرارها في استهداف القوات الأممية، واعتبارها قوات صليبية تهدف إلى حماية الأنظمة السياسية المعادية للإسلام.
ووفقاً للدراسة، فإنّه على المنوال ذاتِه سار تنظيم داعش، حيث أخذ يكثّف هجماته ضدّ القوات الأممية في المناطق التي ينشط فيها، خصوصاً في منطقة وسط أفريقيا، وهو ما تكشف عنه بياناته المختلفة، على غرار ما جاء في العدد (368) من مجلته الأسبوعية (النبأ)، بتاريخ 8 ديسمبر 2022، التي أعلن فيها عن استهداف عناصره لقوات تجمّع التنمية الجنوب أفريقي (سادك) في موزمبيق، متعهداً بالاستمرار في استهداف تلك القوات بزعم أنّها قوات صليبية غازية. وجدير بالذكر أن قوات (سادك) تحظى بدعم الاتحاد الأوروبي.
كما أشارت إلى أنّ تنافس التنظيمات الإرهابية على التمدد والانتشار ومصادر التمويل أدّى إلى دخولها في مواجهات مسلحة فيما بينها، وهو ما أدى إلى تحوّل جديد ونوعي في أولوية الاستهداف، حيث أصبح استهداف التنظيمات المنافسة يحتلُّ مرتبة متقدمة للغاية في قائمة أولويات الاستهداف لدى التنظيمات المختلفة، ربما تقدَّم على أولوية استهداف القوات الحكومية، وذلك نظراً لرغبة كل تنظيم في السيطرة والانفراد بالنفوذ في المناطق التي ينتشر فيها، دون وجود منافس.
وهو ما تكشّف عن الصراعات الدموية بين المجموعات القاعدية والداعشية في منطقة الساحل، التي أسفرت خلال العامين الماضيين عن وقوع مئات القتلى من التنظيمين، ونظراً لأهمية أولوية الاستهداف تلك بالنسبة إلى التنظيمات الإرهابية، فإنّها تحرص على إبرازها إعلاميّاً بشكل مركَّز، على غرار الإعلان المتكرر من قبل تنظيم القاعدة عن استهداف مقاتليه عناصر (داعش) في منطقة الساحل الأفريقي، الذين يطلق عليهم صفة الخوارج، وفي المقابل يحرص (داعش) على الإعلان عن هجماته ضدّ عناصر القاعدة، الذين يطلق عليهم مُسمّى (مرتدّي القاعدة).
ولم يقف الأمر عند منطقة الساحل الأفريقي، ولكنّه انتقل إلى أفغانستان، في ظل المواجهات المستمرة بين حركة (طالبان) وتنظيم (ولاية خراسان)، حيث بات واضحاً أنّ تنظيم داعش يركز هجماته ضدّ عناصر طالبان وقادتها، وهو ما يحرص على الإعلان عنه خلال وسائله الإعلامية المختلفة.
وخلصت الدراسة إلى أنّ استمرار أولويات الاستهداف الحالية عند التنظيمات الإرهابية متوقّفة على ثبات محدّدات الاستهداف السابقة، ولذا فإنّ التغيُّرات التي يمكن أن تطرأ على العوامل المحيطة، مثل تزايد الوجود الأجنبي، أو تصاعد معدّل التنافس الجهادي، أو تزايد حالات الانقسامات داخل التنظيمات، ستؤدي بشكل تلقائي إلى تغيُّر أولويات الاستهداف لدى كل تنظيم، وهو ما يعني أنّ تلك الأولويات تُعَدُّ مرحلية، ويمكن أن تتغير بتغيُّر الظروف والبيئة المحيطة.