في خطوة تعكس تحولًا جذريًا في سياسات فرنسا تجاه الجماعات الإسلاموية، أغلقت السلطات الفرنسية معهد “الفلك” في ضاحية أنتوني جنوب باريس، بتهمة الترويج لخطاب قريب من فكر الإخوان اللارهابية، في قرار وصف بأنه بداية “مرحلة الهجوم الفكري” على الأيديولوجيا الإخوانية داخل الأراضي الفرنسية.
يأتي هذا الإجراء في إطار رؤية جديدة تتبناها الدولة، تهدف إلى تجفيف منابع الفكر الانعزالي قبل تحوله إلى تهديد أمني، بعد أن ظلت فرنسا لسنوات تتعامل مع هذه الظواهر كرد فعل لما بعد وقوع الحوادث.
إغلاق “الفلك”.. بداية سياسة جديدة
قرار محافظ منطقة “أوت دو سين” بإغلاق المعهد جاء استنادًا إلى تقارير رسمية كشفت عن مخالفات فكرية وتنظيمية تتعلق بترويج خطابات تتنافى مع قيم الجمهورية، فضلًا عن مخالفات أمنية.
لكن الأهم، بحسب خبراء فرنسيين، هو أن الدولة لم تكتفِ بإجراء إداري بل أحالت مواد أرشيفية وخطبًا قديمة صادرة عن المشرف على المعهد إلى النيابة العامة، وهو ما يفتح الباب أمام ملاحقات قضائية في قضايا تتعلق بخطاب الكراهية والتحريض.
ويشير مراقبون، إلى أن الخطوة تعبر عن تطور في المقاربة الفرنسية تجاه الفكر الإخواني، من المعالجة الأمنية إلى المواجهة الفكرية المؤسسية، حيث باتت باريس تعتبر أن الفكر المتطرف لا يواجه فقط في المساجد، بل في المراكز الثقافية والتعليمية التي تتخفى وراء أنشطة مدنية.
الإخوان من الدعوة إلى مشروع موازٍ
يرى الباحثون، أن أيديولوجيا الإخوان في فرنسا تطورت لتصبح “مشروع نفوذ اجتماعي” أكثر من كونها ظاهرة دينية.
فالخطاب الذي كان يُقدّم في صورة تعليمية أو ثقافية، اتضح أنه يحمل مضامين تدعو إلى الفصل المجتمعي، وفرض قيود اجتماعية على النساء، وخلق بيئة منفصلة عن النظام المدني الفرنسي.
وتقول الباحثة آن-لور دوبون من جامعة باريس نانتير: إن الإخوان تحولوا من العمل داخل المساجد إلى استخدام المؤسسات الثقافية والرياضية والتعليم المنزلي كواجهات آمنة، بعدما شددت السلطات الرقابة على أماكن العبادة.
وتضيف: أن هذه المراكز لا تنشر التطرف العنيف مباشرة، لكنها تزرع “منظومة فكرية مغلقة” ترفض الاندماج وتؤسس لهوية موازية للمجتمع الفرنسي.
المعركة الفكرية تتسع
فرنسا، التي أغلقت خلال العامين الأخيرين عشرات الجمعيات والمدارس والمراكز التي وصفت بأنها “واجهات ناعمة للنفوذ الإخواني”، باتت تعتمد مقاربة شاملة تدمج الأمني بالفكري والقانوني.
ويؤكد محللون، أن قرار إغلاق معهد “الفلك” ليس حالة منفردة بل جزء من استراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والدين، ووضع حد لما يعرف بـ”الانعزال المجتمعي” الذي اعتبره الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أحد أخطر تهديدات الجمهورية.
وبهذه الخطوات، يبدو أن باريس ترسم قواعد جديدة للعبة: لا مجال لخطاب ديني يقدم نفسه بوجه ثقافي، ولا حصانة لأي مؤسسة تستخدم القيم المدنية غطاءً لمشروع أيديولوجي.
المعركة التي بدأت بإغلاق مركز واحد مرشحة لأن تتوسع، ليس فقط ضد جماعة الإخوان، بل ضد أي بنية فكرية تتحدى مفهوم “الهوية الجمهورية”.

