لم تعد الحرب الجارية في قطاع غزة امتدادًا مباشرًا لما بدأ بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، بل تحولت إلى صراع مختلف كليًا من حيث الأدوات والغايات، وفق تحليل نشرته مجلة فورين بوليسي الأمريكية، ويقول الكاتب الإسرائيلي ديفيد إي روزنبرغ إن المرحلة الحالية من الحرب، والتي انطلقت فعليًا في مارس/آذار الماضي، تشكل “حربًا ثانية” تختلف جذريًا عن سابقتها.
من الانتقام الشعبي إلى الاحتلال المرحلي
وفي المرحلة الأولى، ركزت إسرائيل على أهداف تقليدية: استعادة الردع، القضاء على مقاتلي حركة حماس، وإنقاذ الرهائن، لكن بعد انهيار الهدنة التي كانت قائمة منذ يناير/كانون الثاني، بدأ الجيش الإسرائيلي باتباع استراتيجية مغايرة، تحت قيادة رئيس الأركان الجديد إيال زامير.
يرى روزنبرغ أن الطابع الانتقامي والشعبي طغى على الموجة الأولى من الحرب، حيث توحدت التيارات السياسية الإسرائيلية خلف الحكومة، وجرى استدعاء الاحتياط على نطاق واسع، لكن مع تعثر تحرير الأسرى وتفاقم الأزمة الإنسانية، بدأت مؤشرات التململ الشعبي بالظهور، لا سيما في ظل التداعيات الاقتصادية والاجتماعية المتصاعدة.
وفي المقابل، جاءت العودة إلى العمليات العسكرية في مارس لتكشف عن تحولات جوهرية، فزامير يقود الجيش نحو احتلال مناطق واسعة من غزة لفترات طويلة، في إطار استراتيجية تقوم على السيطرة الميدانية المباشرة، مع توزيع المساعدات بشكل يُضعف ارتباط السكان بحماس، ويدفعهم للانتقال إلى “جيوب إنسانية” تفرضها إسرائيل.
أهداف جديدة: الاستيطان و”الهجرة الطوعية”
وتغيّرت أيضًا أهداف الحرب، من أهداف عسكرية قابلة للقياس، إلى طموحات سياسية وأيديولوجية ترتبط بقوى اليمين المتطرف في حكومة نتنياهو، فقد برزت دعوات إلى إعادة الاستيطان في غزة، وتأسس بالفعل مكتب حكومي لتسهيل “الهجرة الطوعية” للفلسطينيين إلى دول أخرى، في إطار خطة أعلنها وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، الذي صرّح بأن هدفه هو “تفريغ القطاع خلال عام”.
ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لم يُعارض هذا التوجه، بل أبدى دعمه الضمني له، وهو ما يُفسَّر على نطاق واسع بأنه محاولة لإرضاء شركائه اليمينيين في الائتلاف الحاكم، والحفاظ على تماسك حكومته، حتى ولو على حساب الاستقرار الإقليمي.
“التفاوض تحت النار”.. غياب رؤية لما بعد الحرب
وتؤكد تصريحات نتنياهو الأخيرة، مثل قوله إن “المفاوضات ستُجرى تحت النار”، ورفضه تقديم إجابات واضحة لوزرائه بشأن مستقبل غزة، أن إسرائيل لا تملك بعد رؤية سياسية شاملة لما بعد انتهاء الحرب، هذا الغموض يمنح قوى اليمين مساحة أوسع لفرض أجندتها الاستيطانية.
وفي هذا السياق، يرى مراقبون أن تكتيكات زامير، رغم خلوها من الخطاب الديني المتشدد، تمهد فعليًا لتنفيذ مخططات التهجير وإعادة الهندسة الديمغرافية، عبر خلق واقع إنساني ومعيشي ضاغط داخل غزة.
الواقع الميداني يرسّخ “الحرب الثانية”
كما أن التحول في طبيعة الحرب الإسرائيلية يبرز في الانتقال من العمليات السريعة إلى الاحتلال التدريجي للأرض، ومن ضرب أهداف حماس إلى إعادة تشكيل القطاع سياسيًا وديمغرافيًا، وهذه الحرب الجديدة لم تعد مجرد استجابة لعملية السابع من أكتوبر، بل أصبحت وسيلة لإعادة رسم خريطة غزة بما يخدم المشروع اليميني في إسرائيل.
ما يعني أن الحرب في غزة لم تعد مجرد مواجهة عسكرية، بل تحوّلت إلى مشروع سياسي طويل الأمد، يحمل في طياته مخاطر كبرى على الاستقرار في المنطقة، ويبدو أن ما تصفه فورين بوليسي بـ”الحرب الثانية” ليس سوى بداية لتحولات أعمق في ملامح الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
وشهدت الأسابيع الأخيرة تصاعدًا في الضغوط الدولية على إسرائيل لوقف إطلاق النار، خاصة مع تزايد أعداد الضحايا المدنيين، إلا أن تل أبيب تواصل تجاهل تلك الدعوات بدعوى “استكمال أهداف الحرب”.
ووفق تقارير أممية، يعاني أكثر من 1.7 مليون فلسطيني في غزة من النزوح، فيما تشهد مناطق عدة في الجنوب انهيارًا كاملاً في البنية التحتية والرعاية الصحية، وتواجه الخطة الإسرائيلية لإفراغ غزة رفضًا واسعًا من دول الجوار، وعلى رأسها مصر، التي تعتبر أي تهجير جماعي تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي.