تابع العالم عن كثب خلال الأيام الماضية، الانتخابات الرئاسية في تركيا، والتي جاءت نتيجتها غير متوقعة؛ إذ تتجه نحو جولة إعادة للانتخابات الرئاسية في الثامن والعشرين من مايو بعد أن تراجعت نسبة الأصوات التي حصل عليها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إذ تراقب واشنطن الانعكاسات التي يمكن أن تترتب على علاقتها المستقبلية بتركيا سواء استمر الرئيس رجب طيب أردوغان في الحكم، أو تمكنت المعارضة التركية بقيادة كليتشدار أوغلو من إزاحته من السلطة بعد 20 عاماً من حكم البلاد.
ويأتي ذلك في ظل علاقة تركيا المتنامية مع روسيا ورفضها انضمام السويد لتحالف “الناتو” واستمرار التوجه نحو تطبيع العلاقات مع النظام السوري الذي ترفضه واشنطن، فكيف تنظر العاصمة الأميركية إلى مآلات هذه النتيجة وتوقعاتها المحتملة؟، وهو ما تناولته صحيفة إندبندنت البريطانية في تقريرها اليوم.
ومن المنتظر أن تحدد الجولة الثانية وطريقة تصويت أنصار المرشح الثالث سنان أوغان من القوميين الأتراك، ستحدد بشكل نهائي، ما إذا كانت دولة حلف “الناتو” ذات الموقع الإستراتيجي ستظل تحت قبضة الرئيس أردوغان الحازمة أو يمكنها الشروع في مسار أكثر ديمقراطية وعد به منافسه الرئيسي أوغلو، وهو ما تطمح إليه الولايات المتحدة وغالبية دول الاتحاد الأوروبي، حتى يمكن لها التعامل بشكل أكثر راحة وديناميكية مع دولة مهمة إستراتيجياً، تقع عند مفترق طرق بين الشرق والغرب، مع ساحل على طول البحر الأسود وتمتلك حدوداً مع إيران والعراق وسوريا، وظلت لاعباً رئيساً في قضايا تشمل الحرب في سوريا، وتدفق الهجرة إلى أوروبا، وصادرات الحبوب الأوكرانية إلى دول العالم، وتوسع حلف “الناتو”.
وعلى رغم أن كليتشدار (74 سنة)، وحزبه حققا تقدماً في الجولة الأولى ويراهنان على تصويت القوميين الأتراك إلى جانبهما رغبة في التغيير، إلا أن زعيمهم، المرشح الثالث أوغان، الذي حصد أكثر من خمسة في المئة من الأصوات، غير مقتنع بقدرة التحالف السداسي بقيادة كليتشدار على الحكم، كما أنه إذا شارك القوميون الأتراك في تصويت جولة الإعادة فإن معظمهم من المرجح أن يختاروا أردوغان، نظراً لأن لديهم مشاعر معادية للغرب بحسب ما تشير صحيفة “نيويورك تايمز” في تقرير لها.
ومثلما استغل أردوغان موارد الدولة في الفترة التي سبقت الانتخابات بحرية لتحسين فرصه الانتخابية، ورفع رواتب موظفي الخدمة المدنية والحد الأدنى للأجور، وأطلق العنان للإنفاق الحكومي في محاولة لعزل الناس من الآثار الفورية لارتفاع التضخم، فمن المرجح أن يعمد إلى إطلاق المزيد من هذه الإجراءات من الآن وحتى جولة الإعادة، وهو ما يعزز من حظوظه الانتخابية.
غير أن تصريحات أوغان السابقة تؤكد أنه من الصعب التنبؤ لمن ستذهب أصوات تحالف القوميين الأتراك المتشدد، ذلك أنه أوضح أن الأمر سيعتمد على المفاوضات التي سيجريها هذا التحالف مع المرشحين المتبقين في السباق الرئاسي.
وكان مصير أردوغان مثيراً للاهتمام بشكل خاص في الولايات المتحدة، وهو ما أثار حيرة وإحباط واشنطن وشركائها الغربيين، وفي الوقت نفسه، واجه استياء متزايداً في الداخل بسبب ارتفاع التضخم والدمار الذي أحدثته الزلازل في فبراير والتي أودت بحياة أكثر من 50 ألف شخص في جنوب تركيا، لكن الناخبين الأتراك لم يعطوا الأولوية للسياسة الخارجية في صناديق الاقتراع؛ إذ يبدو أن قرار أردوغان بتصعيد الخطاب القومي ضد المتشددين الأكراد وضد المهاجرين السوريين خلال الحملة قد أتى بثماره، سواء بالنسبة له أو لتحالفه البرلماني المحافظ.
ومع ذلك، فقد تمكن أردوغان خلال رئاسته الطويلة من إرباك رؤساء الولايات المتحدة المتعاقبين، وبخاصة في الآونة الأخيرة، حين أزعج تعامله مع زميله القوي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الولايات المتحدة في سعيها لإنقاذ سيادة أوكرانيا بعد هجوم موسكو قبل أكثر من عام.
وسيكون لمصير أردوغان تداعيات كبيرة ليس فقط على ديمقراطية بلاده، التي عمل على إضعافها، ولكن أيضاً على السياسة الخارجية للولايات المتحدة، فعلى رغم أن تركيا حليف في “الناتو”، إلا أن أردوغان غالباً ما أحبط واشنطن من خلال التقرب من روسيا والتقارب مع النظام السوري الذي رفضته واشنطن وحذرت من تداعياته، ورفض عضوية السويد في حلف “الناتو”.
لا يعتبر العديد من علماء السياسة تركيا دولة ديمقراطية خالصة، ويرجع ذلك إلى القوة الهائلة التي يمارسها الرئيس وقدرته على تشكيل الساحة السياسية، لكن نضال الرئيس أردوغان للتشبث بالسلطة في انتخابات تركيا، يعتبر أحدث تطور في قصة رجال أقوياء طموحين سواء كانوا حول العالم أو في داخل أميركا، يحددون بالفعل رئاسة جو بايدن.
ووفقاً لتقرير نشرته شبكة “سي أن أن”، ستهيمن على إرث بايدن النهائي في البيت الأبيض مواجهته مع بوتين وتنشيط التحالف عبر الأطلسي لدعم الديمقراطية في أوكرانيا بخط دعم مستمر بمليارات الدولارات من المساعدات العسكرية والاقتصادية والإنسانية.
ويتفاقم التحدي الأكثر أهمية للسياسة الخارجية الأميركية في الصعود القوي للصين الأكثر قومية من قِبل الرئيس شي جينبينغ الذي يقدم للعالم نموذجاً سياسياً بديلاً للديمقراطية الغربية ويتحدى بشكل متزايد المصالح العالمية للولايات المتحدة، كما ابتعد بايدن في الفترة الأخيرة أيضاً عن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بسبب المحاولات المتوقفة الآن لإصلاح القضاء، والتي يقول بعض الخبراء الأميركيين إنها ستسمح لحكومته اليمينية المتشددة بتقليص الديمقراطية.
ومن هذا الدافع الأميركي، ربما تؤدي هزيمة أردوغان إلى إزاحة زعيم ظل يعمل لمدة عقدين من الزمن لإضعاف تأثير المؤسسات الديمقراطية في تركيا، مثل المحاكم والصحافة وقواعد القوة الاقتصادية الرئيسة، ولكن إذا فاز بولاية جديدة، من المرجح أن يزيد أردوغان من تقليص الحريات مع الاستمرار في إحباط القادة الغربيين، بعدما منع دخول السويد إلى “الناتو” بعد أن قرر قادتها الانضمام إلى الحلف في أعقاب هجوم بوتين على أوكرانيا، وطالب بقمع الأكراد في المنفى بالسويد الذين يعتبرهم إرهابيين، وهي خطوة كانت مثالاً كلاسيكياً على كيفية تعزيز أردوغان لمصالحه، ومصالح تركيا اسمياً، بغض النظر عن هياكل التحالف القائمة ولماذا كان يمثل مصدر إزعاج للغرب.
وفي المقابل، كان كليتشدار أوغلو يتحدث بعبارات متشابهة للغاية عن الحاجة إلى الحفاظ على الديمقراطية كما يفعل بايدن في الولايات المتحدة، وكان هذا الصدى المتماثل في خطابهما علامة أخرى على الكيفية التي تغيرت بها الأمور، على اعتبار أن أميركا تعتبر نفسها الحارس القديم للديمقراطيات في الخارج على رغم أنها تواجه الآن التهديدات نفسها.
ولهذا لم يكن غريباً أن يلمح بايدن، الأحد الماضي، في تعليقه على الانتخابات التركية، إلى أن هناك مشكلات كافية في هذا الجزء من العالم، لكنه يتمنى أن يفوز من يفوز؛ ما يشير إلى معضلة تقليدية تعمل منذ زمن بعيد على تعقيد السياسة الخارجية الأميركية، وهي ما يجب فعله عندما تتعارض القيم الديمقراطية الأميركية مع المصالح الإستراتيجية للبلاد في الخارج.
وكما تقول يفيغينا جابر الخبيرة في الشؤون التركية بالمجلس الأطلسي في واشنطن، فإنه على رغم أن نتيجة الجولة الأولى كانت مخيبة للآمال بالنسبة للغرب، يبدو أن التوقعات إزاء الجولة الثانية ستكون تفضيل “الشيطان الذي نعرفه”، بعدما نجحت قليلاً محاولات أردوغان لبث الشكوك حول افتقار أوغلو إلى الخبرة الدولية، فهو لا يتحدث الإنجليزية وليست لديه خبرة في السياسة الخارجية.
وفي حين يعتبر أوغلو ناشطاً متواضعاً، ورجلاً لائقاً تماماً للمنصب، إلا أن ائتلافه ثبت أنه محدود للغاية في ما يتعلق بتفاصيل السياسة، كما ثبت أن أوغلو كان عرضة لاتهامات بأنه ضعيف على الصعيد الأمني وغير جاهز للظهور في أوقات الذروة.
وأظهرت النتائج شبه الكاملة لأهم انتخابات تشهدها تركيا في حقبة ما بعد السلطنة العثمانية، أن أردوغان الذي يُحكم قبضته على السلطة منذ عام 2003 ولم يهزم في أكثر من 10 انتخابات وطنية، أخفق بفارق طفيف عن تحقيق نسبة الـ50% المطلوبة زائد صوت واحد.
وأعلنت هيئة الانتخابات التركية أن أردوغان حصل على 49.4% مقابل 44.96% لكليتشدار أوغلو.
وكانت نسبة التصويت لصالح أردوغان تراجعت إلى أقل من 50% من الأصوات بعد فرز أكثر من 98% من الأصوات، بحسب وكالة أنباء الأناضول الحكومية.
وللفوز في الانتخابات الرئاسية، يجب أن يحصل أحد المرشحين الرئيسيين على أغلبية 50% من الأصوات زائد واحد. وهو ما لم يتحقق حتى الآن لأي من المرشحين بعد فرز أكثر من 98% من الأصوات.