معاناة وأزمات كبيرة، يشهدها سكان العاصمة الخرطوم تحت دوي الرصاص والقصف في مناطق وأحياء عدة، لتوفير متطلبات الحياة اليومية لهم ولأطفالهم في وقت يواجهون شحاً متفاقماً في السلع والخدمات الأساسية من كهرباء وماء وطعام ووقود، وبدء نفاد بعض المواد الغذائية بالفعل، واستنهضت أيام الحرب السوداء قيم السودانيين التكافلية الموروثة في مواجهة تداعياتها، فإلى متى يصمد الناس وإلى أين تتجه الأوضاع الإنسانية؟.
الأوضاع الإنسانية ومعاناة سكان الخرطوم، هي ما سلط عليها تقرير حديث لصحيفة الإندبندنت البريطانية، لتقديم يد العون للأهالي، موضحة أن أول مظاهر التكافل هو استدعاء ثقافة “البروش” (مفردها برش وهو سجاد أرضي كبير يتجمع عليه الناس) وهي إحدى التقاليد الموروثة لتعزيز ثقافة التآخي والتآلف، كما لجأ سكان الخرطوم إلى سياسة تبادل المنافع، فهناك مثلاً من يفتقر إلى الدقيق ولكن لديه الغاز، وآخر يملك السكر ويبحث عن الشاي، والأمر ينسحب على مواد أخرى ما زاد من عامل التعاون والتعاضد بين السكان.
وفكرة تبادل المنافع نجحت في امتصاص ظاهرة الشح في مواد الغذاء، كما يتبادل المواطنون عبر مواقع التواصل الاجتماعي المعلومات بأماكن الصيدليات العاملة، وأيضاً المركبات المغادرة إلى الولايات ومناطق تواجدها، كذلك ناشد القيمون على بعض أسواق الخضر والمنتجات الزراعية في أكبر التجمعات في بحري وأم درمان التي عادت لمزاولة عملها جزئياً وتدريجاً المواطنين أن يأتوا لأخذ احتياجاتهم حتى لمن لا يملك نقوداً بسبب ظروف وتعقيدات الحرب، كما تشكلت مجموعات افتراضية من الأطباء والصيادلة لإرشاد المحتاجين إلى المراكز العاملة في الحالات الحرجة بخاصة الولادة والعمليات الجراحية، وأعلنت هذه المجموعات عن توفر بعض أدوية الأمراض المزمنة كالسكري والضغط وغيرها، ويقوم الأطباء افتراضياً بتقديم النصائح والمشورة الطبية للمحتاجين.
ويشرح أحد المواطنين أحمد موسى، من منطقة أم درمان – الفتيحاب “لقد أنقذتنا مؤونة شهر رمضان، ولا ندري ماذا سيحدث بعد نفادها، وتقطعت سبل المواطنين في تأمين الاتصالات أو الكهرباء وحتى مياه الشرب والمواد الغذائية، صحيح هناك انفراج طفيف في توفر بعض السلع لكن أسعارها تضاعفت، ولا تزال غالبية المتاجر مغلقة وحركة البيع متوقفة، وكذلك المحروقات غير متوفرة”.
في السياق، رأى المحلل الاقتصادي محمد الناير أنه في نهاية شهر أبريل، يحين موعد دفع رواتب العاملين في القطاع العام في الخرطوم، وعلى الدولة تأمينها في فترة أقصاها الخامس من شهر مايو، وأضاف أن مشكلة الرواتب قد لا تشمل بقية الولايات التي ينتظم فيها العمل بشكل عادي، مع أهمية خاصة لولاية البحر الأحمر التي تحتضن هيئة الموانئ البحرية، حيث لم تتوقف حركة الاستيراد والتصدير ونقل الركاب وترتيبات إجلاء الرعايا الأجانب، وطالب المحلل الاقتصادي أجهزة الدولة بالإسراع في اتخاذ التدابير اللازمة لسداد الرواتب، وقال: إن الدولة قد لا تكون لديها موارد كافية في الوقت الراهن نتيجة تعطل إيراداتها في ولاية الخرطوم.
كما طالب الناير بضرورة إعادة النظر في تطبيقات الدفع الإلكترونية، مشيراً إلى أن تعطل هذه التطبيقات فاقم المعاناة، ولفت إلى الأهمية القصوى لأن تفتح البنوك أبوابها خلال الأسبوع المقبل في كل ولايات السودان، وتابع: “لا يمكن القول إن هناك مشكلة في مخزون البلاد من الغذاء أو غيره باعتبار أن أي دولة في العالم تحتفظ بمخزون إستراتيجي احتياطي من المواد الغذائية يكفي لفترة تتراوح بين ثلاثة إلى ستة أشهر، لكن المشكلة الآن في تعطل وتعقد سلاسل الإمداد داخل ولاية الخرطوم”.
في سياق متصل، أوضح أستاذ علم الاجتماع السياسي محمد مصطفى الباقر أن بروز المبادرات المجتمعية أمر متوقع في مثل هذه الظروف والمحن التي تستلهم التراث التقليدي في استنهاض دور المجتمع لتنظيم أوضاعه وأحواله انطلاقاً من موروثه المجرب والفعال من زمن بعيد، وأشار إلى أن هذه المبادرات تأتي كرد فعل مباشر لسد الفجوة على إثر تراجع الدور الوظيفي للدولة، لاسيما في هذه الظروف، “وهي مجموعة قيم ظلت كامنة في روح المجتمع السوداني لكنها قد لا تكون كافية إذا طال أمد الحرب، وجفت كل الموارد المشتركة للتكافل والتعاون المجتمعي”، سائلاً عن مدى قدرة الدولة على استعادة دورها بعد توقف الحرب.
وتوقع الأستاذ الجامعي أن تتناقص قدرة الولايات، التي باتت ملاذ كثيرين من سكان الخرطوم طلباً للأمن والطمأنينة، في أداء دورها إذا استمرت الحرب لفترة أطول، “وقد لا تتمكن من سداد مرتبات العاملين والموظفين وتسيير الخدمات إذا توقف الدعم الذي كان يحول إليها شهرياً من الحكومة المركزية”، وحذر الباقر من أن الأمور قد تصل إلى عجز البنك المركزي عن تأمين النقود مع توقف الصادرات وجفاف الواردات؛ ما يعني تفاقم الأزمات، لاسيما الوقود والمحروقات.
وعلى صعيد تداعيات الحرب غرب دارفور، أعربت المفوضية القومية لحقوق الإنسان عن أسفها للأحداث العنيفة التي شهدتها مدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور، واعتبرتها امتداداً للنزاع المسلح التي تشهده الخرطوم وبعض مناطق السودان، وطالبت المفوضية، في بيان، طرفي القتال بالوقف الفوري لجميع الأعمال العدائية في مختلف أرجاء السودان، وعبرت المفوضية عن قلقها البالغ في شأن الأنباء عن تسميم موارد مياه الشرب في بعض مناطق الجنينة، داعية إلى التحقيق الفوري في هذه المعلومات الخطيرة واتخاذ جميع التدابير في شأن حماية المدنيين.
من ناحيتها، قالت اللجنة الدولية للصليب الأحمر: إنها قررت الخروج من العاصمة الخرطوم بعد أن بات من الصعوبة استمرار العمل داخلها، وأشار جيرمن ميوهو مسؤول الإعلام باللجنة إلى أن المنظمات الإنسانية أوقفت أعمالها بسبب الوضع الأمني، وأوضح أن مستشفيات كثيرة خرجت من الخدمة في وقت تتفاقم الأزمات “لا ماء وكهرباء في المدينة وتفتقر المستشفيات إلى الحاجات الأساسية، نبحث كل السبل الممكنة لإيصال الأدوية للمستشفيات”، مضيفاً “يجب توفير ضمانات بعدم استهداف الممرات الإنسانية”.
وفي غرب دارفور، قتل 96 شخصاً على الأقل منذ الاثنين في مدينة الجنينة، بحسب المفوضية العليا للأمم المتحدة لحقوق الإنسان التي وصفت الوضع بأنه “خطير”.
وتتزايد أعمال النهب والتدمير وإضرام الحرائق بما في ذلك داخل مخيمات النازحين، بحسب منظمة أطباء بلا حدود التي اضطرت إلى “وقف كل أعمالها تقريباً في غرب دارفور” بسبب العنف، بحسب ما قال نائب مدير المنظمة في السودان سيلفان بيرون.
وحذر بيرون في بيان من أن منظمته “قلقة من تأثير أعمال العنف على الذين سبق أن عانوا موجات منه، وشهد إقليم دارفور حرباً دامية بدأت في عام 2003 بين نظام البشير ومتمردين ينتمون إلى أقليات إثنية؛ ما أسفر عن مقتل 300 ألف شخص ونزوح 2.5 مليون آخرين، وفق الأمم المتحدة.
ومنذ 15 أبريل الجاري، اندلعت اشتباكات عنيفة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في البلاد يوم السبت في العاصمة وأماكن أخرى في الدولة الإفريقية؛ ما أثار مخاوف من اندلاع صراع أوسع.
وقال الجيش السوداني: إن القتال اندلع بعد أن حاولت قوات الدعم السريع مهاجمة قواتها في الجزء الجنوبي من العاصمة، متهمة الجماعة بمحاولة السيطرة على مواقع إستراتيجية في الخرطوم، بما في ذلك القصر.
من ناحيتها، اتهمت قوات الدعم السريع، في سلسلة من البيانات، الجيش بمهاجمة قواتها في إحدى قواعدها بجنوب الخرطوم. وزعمت أنها استولت على مطار المدينة و”سيطرت بالكامل” على القصر الجمهوري بالخرطوم، مقر رئاسة البلاد، وجاءت الاشتباكات مع تصاعد التوترات بين الجيش وقوات الدعم السريع في الأشهر الأخيرة؛ ما أدى إلى تأخير توقيع اتفاق مدعوم دوليا مع الأحزاب السياسية لإحياء التحول الديمقراطي في البلاد.