تشهد سوريا تغييرات متعددة باستمرار، في ظل وجود عدة أطراف بها، لاسيما تركيا، التي تشهد حدود نفوذها تغييرا كبيرا مؤخرا، بسبب دخول هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) إليها إثر اقتتال داخلي بين فصائل محلية موالية لأنقرة.
وفي ريف محافظة حلب الشمالي، في منطقة حدودية مع تركيا سيطرت عليها الأخيرة مع فصائل سورية موالية لها إثر عمليات عسكرية عدة نفذتها في سوريا منذ العام 2016؛ إذ تنتشر القوات التركية في قواعد في المنطقة التي تتولى إدارتها مجالس محلية تتبع المحافظات التركية القريبة مثل غازي عنتاب وكيليس وشانلي أورفا.
ويتقاسم حوالي 30 فصيلاً منضويا في إطار ما يعرف بـ”الجيش الوطني السوري” الموالي لأنقرة، السيطرة على منطقة حدودية تمتد من جرابلس في ريف حلب الشمالي الشرقي إلى عفرين في ريفها الغربي، مروراً بمدن رئيسية مثل الباب وأعزاز.
وتضم الفصائل بشكل رئيسي مقاتلين سابقين في مجموعات معارضة مسلّحة تم إجلاؤهم من مناطق سورية أخرى إثر هزيمة فصائلهم أمام قوات النظام السوري، مثل الجبهة الشامية التي كانت تنشط في مدينة حلب، أو جيش الإسلام الذي كان يعد الفصيل المعارض الأبرز قرب دمشق، ومن بين الفصائل أيضاً، مجموعات تنشط أساساً في الشمال مثل فصيل السلطان مراد، وأخرى برزت مع العمليات العسكرية التركية وبينها فصيلا الحمزة وسليمان شاه.
وتتقاسم الفصائل النفوذ بين القرى والمدن والأحياء، ويتّهم سكان تلك المناطق الفصائل بارتكاب انتهاكات بحقهم من مصادرة أراضٍ وممتلكات ومحاصيل إلى القيام باعتقالات عشوائية، وإدارة المنطقة بقوة السلاح والتخويف، وسبق أن اتهمت منظمة العفو الدولية الفصائل الموالية لأنقرة بارتكاب “جرائم حرب” وتنفيذ عمليات إعدام عشوائية خارج القانون.
وفيما يخص التوتر وعلاقة تحرير الشام، أوضح موقع “أحوال” التركي، أنه تحاذي محافظة إدلب التي تسيطر هيئة تحرير الشام على نحو نصف مساحتها وترسي فيها نظاماً إدارياً وقضائياً، مناطق نفوذ الفصائل الموالية لأنقرة، وبسطت هيئة تحرير الشام التي تعدها واشنطن منظمة “إرهابية” سيطرتها على إدلب مطلع 2019، إثر عامين من اشتباكات متقطعة مع فصائل أخرى تراجع نفوذها وانتقل الكثير منها إلى شمال حلب، وحافظت تركيا على علاقة ودّ مع هيئة تحرير الشام، ولم تسجل أي صدامات بين الطرفين.
ومنذ إعلان فكّ ارتباطها بتنظيم القاعدة في 2016، تسعى هيئة تحرير الشام إلى تلميع صورتها، حتى أن علاقتها توترت مع تنظيمات جهادية أخرى بينها “حراس الدين” الذي يعد ذراع القاعدة في سوريا، لكن مناطق سيطرتها شهدت مرارا تحركات احتجاجية على الحكم المتشدّد الذي تمارسه الهيئة، والتضييق على الحريات.
وفي الثامن من أكتوبر، اندلعت اشتباكات بين فصيلي الجبهة الشامية والحمزة في مدينة الباب في شمال شرقي حلب، إثر اتهام الأخير بقتل ناشط إعلامي، وما لبثت أن توسعت المعارك، وتدخّلت هيئة تحرير الشام دعماً لفصائل معينة بينها الحمزة ضد أخرى على رأسها الفيلق الثالث في الجيش الوطني السوري الذي يضم أيضا الجبهة الشامية وجيش الإسلام، وبعد أيام قليلة فقط دخلت هيئة تحرير الشام منطقة عفرين وتسلّمت كافة مؤسساتها للمرة الأولى.
وقال المتحدث باسم الفليق الثالث سراج الدين الشامي لوكالة فرانس برس: إن الهيئة “تسيطر على منطقة عفرين بالكامل، وعلى كافة المؤسسات فيها، وتولت الأمن العام وإدارة الحواجز”.
فيما أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان عن التوصل إلى اتفاق بين الطرفين المتقاتلين ينص على أن تتسلم الهيئة المؤسسات الخدمية والاقتصادية، وتتولى إرساء الأمن في عفرين، وتنشر عناصرها عند المعابر الفاصلة مع مناطق قوات النظام والأكراد.
وكان من المفترض أن يشمل الاتفاق مناطق أخرى، إلا أنه منذ دخول الهيئة إلى عفرين، تظاهر بضع مئات من السكان في مدن عدة رفضاً لدخولها إلى مناطقهم، مرددين هتافات “جولاني (زعيم تحرير الشام أبو محمّد الجولاني) يطلع برا”.
وبعد يومين من الهدوء، تجددت الاشتباكات، وأحرزت هيئة تحرير الشام تقدماً في محيط مدينة أعزاز، ثم تدخلت فصائل تركمانية للفصل بين الطرفين، “غالباً بطلب من تركيا”، وفق المرصد، وأسفرت عشرة أيام من المعارك، بحسب المرصد، عن مقتل 28 عنصراً من هيئة تحرير الشام و20 مقاتلاً من الفصائل المتحاربة وعشرة مدنيين.
أما عن الدور التركي، فيرى سكان أن هيئة تحرير الشام ما كانت لتدخل إلى المنطقة لولا موافقة الأتراك الذين لم تتدخل قواتهم لوقف الاقتتال الداخلي، وقال الشامي بدوره: “حتى الآن، لم يظهر موقف صريح رسمي من الأتراك تجاه التحركات وربما يدل ذلك على موافقتهم، وربما غير موافقين لكن يقبلون بالأمر الواقع”.
فيما يرى الباحث نوار أوليفر من مركز عمران للدراسات ومقره تركيا، لوكالة فرانس برس، أن “عدم تدخل تركيا أوجد فراغاً في الميدان استغلته الهيئة التي لها مصالح اقتصادية وسياسية”، مضيفاً أن “عدم تدخل الأتراك قد يعني الاستفادة من القوى الأكثر تنظيماً لضبط الفصائل”.
وتكثر التساؤلات حول الدور الذي قد تلعبه الهيئة إن كان في أي عملية عسكرية جديدة قد تشنها تركيا ضد المقاتلين الأكراد، أو في أي تسويات في المستقبل، خصوصاً إثر إعلان مسؤولين أتراك انفتاحهم على إعادة العلاقات المنقطعة منذ سنوات، مع دمشق.
ويضيف أوليفر: “تريد الهيئة بعث رسائل واضحة بأنها قادرة على ضبط المنطقة”، لكن ليس واضحاً حتى الآن حجم السلطة التي قد تمنحها تركيا للهيئة.