قرار فرنسا حل “المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية” في شاتو- شينون لم يكن مجرد خطوة إدارية، بل جاء كصفعة مباشرة لجماعة الإخوان المسلمين، التي طالما اعتبرت هذا المعهد أحد أبرز أذرعها التعليمية والدعوية في القارة الأوروبية.
الاتهامات التي وجهت إليه، من التحريض على الكراهية إلى تورط بعض خريجيه في خطاب متشدد، جعلت استمراره أمرًا يصعب الدفاع عنه، ليغلق أبوابه بعد ثلاثة عقود من العمل.
هذا التطور وضع التنظيم أمام خسارة استراتيجية في فرنسا، لكنه سرعان ما كشف عن وجود شبكات متفرعة في بلدان أخرى، أبرزها سويسرا، حيث ظهرت آثار المعهد في أنشطة مساجد ومراكز دعوية ارتبطت بخريجيه أو بمحاضرين مروا عبره.
بصمات واضحة في سويسرا
التحقيقات التي تلت إغلاق المعهد، أظهرت صلات وثيقة بينه وبين بعض الجمعيات الإسلامية في كانتون فود السويسري، مسجد بريلي، على سبيل المثال، استضاف محاضرين ودعاة تلقوا تدريبهم في فرنسا، وهو ما أثار جدلاً حول مدى تغلغل فكر الإخوان في البنية الدينية المحلية.
هذه الروابط لم تقتصر على المحاضرات أو الأنشطة الدعوية، بل امتدت إلى تمويل مشاريع البنية التحتية للمسلمين في سويسرا عبر قنوات مرتبطة بالمعهد.
الأمر لم يكن وليد الصدفة، فالمعهد منذ تأسيسه عام 1990 على يد أعضاء منفيين من جماعة الإخوان، سعى إلى تخريج دعاة قادرين على التأثير في المجتمعات الأوروبية، مستخدمًا خطابًا يوائم البيئة الغربية شكلاً، لكنه يحمل في جوهره مرجعيات التنظيم التقليدية.
معركة ممتدة تتجاوز فرنسا
وما جرى في باريس ليس حدثًا معزولًا، فقد تزايدت في السنوات الأخيرة مخاوف أوروبية من استغلال الإخوان لمفاهيم الحرية والديمقراطية كغطاء لممارسة نفوذ سياسي واقتصادي واجتماعي واسع.
والإغلاق الفرنسي جاء بمثابة اعتراف رسمي بأن المؤسسات الدعوية والتعليمية المرتبطة بالجماعة لا تقتصر على الجانب الديني، بل تتحول إلى منصات لنشر فكر أيديولوجي قد يُغذي التطرف.
في هذا السياق، بدت أوروبا وكأنها تدخل مرحلة جديدة من التعامل مع الجماعة، من “التسامح المشروط” الذي ميز العقود الماضية، إلى “التحقيق والتقييد” الذي يفرض نفسه اليوم، سواء عبر إجراءات أمنية أو قوانين أكثر صرامة للرقابة على التمويل والنشاطات الدعوية.
سقوط الأقنعة وكشف الشبكات
حل المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية، وما تبعه من كشف امتداداته في سويسرا، يسلط الضوء على نقطة مركزية، أن الإخوان لم يعودوا مجرد حركة دينية محلية، بل شبكة عابرة للحدود، قادرة على التكيّف مع البيئات المختلفة وتغيير خطابها بحسب الحاجة.
ولكن هذا التكيّف الذي كان في السابق ورقة قوة، بدأ يتحول اليوم إلى عبء، إذ يثير شكوك الحكومات ويزيد من مخاوف الرأي العام الأوروبي.
تعددت المؤشرات إلى أن أوروبا بدأت مرحلة تفكيك “البنية السرية” للجماعة، لا من خلال المواجهة المباشرة فقط، بل عبر تجفيف منابعها المؤسسية والتعليمية، وكشف مصادر تمويلها وشبكاتها العابرة.
مئوية الإخوان في عين العاصفة
مع دخول الجماعة قرنها الثاني، تواجه تحديات غير مسبوقة، في المنطقة العربية، طردت من ساحات كانت تعتبرها معاقل استراتيجية.
وفي أوروبا، حيث وجدت الملاذ لعقود، تتعرض اليوم لأكبر موجة تضييق منذ تأسيسها، الإغلاق الفرنسي للمعهد ليس مجرد حادثة محلية، بل إشارة إلى اتجاه أوسع يعكس إدراكًا غربيًا متزايدًا بأن الإخوان لم يعودوا جزءًا من التعددية الثقافية والدينية، بل لاعبًا يسعى إلى إعادة تشكيلها وفق أجندته.