يثير إعلان الصين عن خطط ضخمة لتحديث البنية التحتية في شرق ليبيا، وبخاصة في مدينة طبرق، تساؤلات عميقة حول دوافع بكين الحقيقية في هذا التوقيت الحرج، فبكلفة تقدر بنحو 50 مليار دولار، تسعى الصين لتحويل مطار طبرق العسكري إلى محطة شحن مزدوجة، عسكرية ومدنية، إلى جانب توسيع ميناء المدينة وتحويلها إلى مركز إقليمي للتجارة والخدمات اللوجيستية.
لماذا تتجه الصين نحو ليبيا الآن؟
وبينما تنتظر بكين الضوء الأخضر من قائد “الجيش الوطني الليبي” المشير خليفة حفتر، يراقب الغرب هذه التحركات بقلق بالغ، خاصة في ظل التوترات المتصاعدة بين حكومة شرق ليبيا والقوى الأوروبية، والتي بلغت حد طرد وزراء أوروبيين من شرق البلاد مؤخرًا.
وبعيدًا عن الأرقام، تكشف هذه التحركات عن رؤية أوسع لدى الصين، التي باتت تنظر إلى ليبيا كبوابة إستراتيجية تربط آسيا وأفريقيا وأوروبا، وتعزز موقعها في البحر المتوسط.
ويشير خبراء، أن الصين لطالما وضعت نصب عينيها الاستفادة من موقع ليبيا الاستثنائي، كساحل طويل على البحر المتوسط، ونقطة عبور حيوية في سلاسل التوريد العالمية، وممر محتمل لدعم صادراتها النفطية إلى أوروبا، خاصة مع رغبة الأوروبيين في تقليص الاعتماد على روسيا منذ حرب أوكرانيا في 2022.
كما يرى المحللون، أن الانقسام السياسي المستمر في ليبيا، وغياب حكومة موحدة، يوفران فرصة ذهبية للصين لترسيخ وجودها في منطقة ما تزال خارج الحسابات الغربية التقليدية، خصوصًا في الشرق الليبي الذي يُعتبر أقل فوضى مقارنة بالغرب.
استغلال الفرص وسط تنافس دولي حاد
وأوضح الباحث في العلوم السياسية إلياس الباروني، أن الصين تستغل مشاريع إعادة الإعمار في شرق ليبيا، وتدخل كطرف قادر على تقديم استثمارات ضخمة لا تستطيع أطراف محلية أو حتى إقليمية منافستها فيها، كما لفت الباروني إلى أن بكين تحاول كسب أوراق ضغط جديدة في شمال أفريقيا، عبر ما يعرف بـ”التموضع الجيو اقتصادي”، أي استخدام الجغرافيا لتعزيز القوة الاقتصادية والسياسية.
في المقابل، حذر الباحث الإيطالي دانييلي روفينيتي من أن دخول الصين بهذه القوة إلى شرق ليبيا قد يعمق الانقسام السياسي، ويثير حفيظة طرابلس والقوى الغربية. فوجود بنى تحتية صينية مزدوجة الاستخدام (مدني وعسكري) على الساحل الليبي قد يشكل تحديًا مباشرًا للجنوب الأوروبي ولحلف الناتو، ويفتح الباب أمام سباق نفوذ مع موسكو التي رسخت وجودها في الشرق عبر “فاغنر” وتحالفها مع حفتر.
هل ذلك تعاون اقتصادي أم نفوذ استراتيجي؟
ومن جانبها، تروج الصين لتحركاتها في ليبيا على أنها جزء من “تعاون استراتيجي صادق”، لا يحمل أي نوايا خفية، حسبما أكد الباحث الصيني نادر رونغ، وقال: إن الصين تدعم وحدة ليبيا، وتولي أهمية خاصة لتعزيز التعاون في البنى التحتية والطاقة المتجددة، وتحرص على ضمان بيئة استثمارية عادلة.
لكن على الأرض، يرى مراقبون, أن الاستراتيجية الصينية تتجاوز مجرد إعادة الإعمار، وتمتد لتشمل رسم تحالفات جديدة، وإعادة هيكلة طرق التجارة والتحالفات السياسية في المتوسط وأفريقيا، وربما حتى منافسة روسيا على النفوذ في المدى البعيد.
السيناريوهات المقبلة.. ليبيا ساحة صراع غير معلن
ورغم غياب موقف روسي رسمي تجاه التحركات الصينية، لا يستبعد خبراء نشوء منافسة محتدمة بين بكين وموسكو إذا توسع نفوذ الصين بشكل أكبر في الشرق، فالصين لا تنظر إلى ليبيا كأرض إعادة إعمار فقط، بل كبوابة إلى الساحل، والساحل كبوابة إلى قلب أفريقيا، في تكامل مع مبادرة “الحزام والطريق”.
وفي المقابل، قد يثير تعاظم الدور الصيني ردة فعل أوروبية وأميركية أكثر صرامة، سواء عبر دعم خصوم حفتر في الغرب، أو عبر ضغوط دبلوماسية لمنع بكين من السيطرة على موانئ ومراكز لوجيستية حساسة.
هل خطوة الصين محسوبة أم مقامرة محفوفة بالمخاطر؟
ومن ثم فتحركات الصين في ليبيا ليست مجرد استثمار اقتصادي، بل تبدو أشبه بخطوة مدروسة ضمن رقعة شطرنج جيوسياسية معقدة، ففي شرق ليبيا، وجدت بكين فرصة لتوسيع نفوذها بأقل تكلفة سياسية ممكنة، مستفيدة من الصراعات الداخلية والفراغات الإقليمية.
لكن الطريق أمامها ليس مفروشاً بالورود، إذ قد تجد نفسها عما قريب في مواجهة مباشرة مع الغرب وروسيا، وتضطر إلى موازنة تحالفاتها بعناية شديدة.