مع اندلاع ثورات الربيع العربي عام 2011، بدا أن لحظة الإسلام السياسي قد حانت. صعدت قوى مثل الإخوان المسلمين في مصر، وحركة النهضة في تونس، وحزب العدالة والتنمية في المغرب، إلى واجهة الحكم أو التأثير السياسي، مدفوعة بشرعية الشارع وصناديق الاقتراع، لكن سرعان ما تبدد ذلك الزخم بفعل عوامل داخلية وخارجية، لتجد هذه الحركات نفسها اليوم في مواقع التراجع أو العزلة أو التكيف الاضطراري.
الإخوان المسلمين.. من الحكم إلى الشتات
لذا كان صعود جماعة الإخوان المسلمين إلى السلطة في مصر عام 2012 لحظة تاريخية، لكنها لم تدم طويلاً، فبعد عام واحد، أطاح بها الجيش في ثورة 3 يوليو 2013، بدعم شعبي وإقليمي، ومنذ ذلك الحين، تتعرض الجماعة لحملة أمنية واسعة داخل مصر، فيما تشتت كوادرها في المنافي، وتعرضت بنيتها التنظيمية لانقسامات حادة بين ما يعرف بـ”القيادة التاريخية” و”التيار الشبابي”.
وعلى المستوى الفكري، لم تقدم الجماعة مراجعة واضحة لأسباب سقوطها، بل انشغلت بخطاب الضحية، دون معالجة حقيقية لإخفاقها في إدارة الحكم أو بناء تحالفات وطنية، كما أن وصمها بالإرهاب في بعض الدول (مثل مصر والسعودية والإمارات) أضعف من حضورها الإقليمي.
لكن رغم ذلك، ما تزال الجماعة تملك حواضن اجتماعية في بعض الدول، وتستثمر في الفضاء الرقمي، وتبقي على صلات ببعض المراكز الإسلامية في الغرب، مما يعني أن مشروعها لم ينتهِ تمامًا، بل أعيد تشكيله في سياق أكثر تعقيدًا.
النهضة التونسية.. أزمة الخيارات بين الإسلام والديمقراطية
فيما مثّلت حركة النهضة التونسية نموذجًا أكثر “تصالحًا” مع الدولة الحديثة، فرّخت تجارب فكرية على يد زعيمها راشد الغنوشي، تقوم على القبول بالتعددية والديمقراطية والتدرج، لكن بعد صعودها إلى الحكم بعد الثورة، اضطرت إلى عقد تحالفات مع قوى علمانية وخصوم سابقين (مثل نداء تونس)؛ ما أدى إلى تآكل قاعدتها الشعبية تدريجيًا.
وجاءت ذروة التراجع مع قرارات الرئيس قيس سعيد في يوليو 2021، بتجميد البرلمان وحل الحكومة، والتي كانت النهضة جزءًا منها، وقد أضعف ذلك الحركة بشكل كبير، لا سيما مع اعتقال الغنوشي وعدد من قادتها، واتهامات بالفساد والتواطؤ مع الإرهاب.
ولم تنجح النهضة حتى اليوم في بلورة مشروع سياسي مقنع يعيد تعريف الإسلام السياسي في بيئة ما بعد الثورة، ولا في استعادة ثقة الشارع الذي رأى فيها شريكًا في الفشل الاقتصادي والاجتماعي.
العدالة والتنمية المغربي.. من الانتصار الانتخابي إلى الانهيار السريع
كما حقق حزب العدالة والتنمية المغربي (PJD) صعودًا قويًا بعد 2011، متربعًا على السلطة عبر الانتخابات، ومتبنيًا خطابًا إصلاحيًا متوازنًا، دون صدامات مع القصر، لكنه خسر في انتخابات 2021 بشكل مدوٍ، حيث تراجع من 125 مقعدًا إلى 13 فقط.
وتعود أسباب التراجع إلى الأداء الحكومي الضعيف، وانفصال الحزب عن قاعدته الاجتماعية، وموافقته على قرارات مثيرة للجدل (مثل التطبيع مع إسرائيل) ما أضر بصورته الأخلاقية، ولم يتمكن الحزب من تقديم بديل فكري أو سياسي واضح بعد الهزيمة، واكتفى ببيانات حزبية ومؤتمرات داخلية لم تمس جوهر الأزمة البنيوية.
هل الإسلام السياسي أزمة مشروع أم أزمة حركة؟
وتشير الوقائع، أن الإسلام السياسي بعد 2011 يواجه أزمة مركبة، منها فكريًا فلم يتم تحديث أطروحة الدولة الإسلامية أو التوفيق الحقيقي بين الشريعة والديمقراطية، وأيضًا سياسيًا، حيث فشل في التعامل مع الدولة العميقة أو بناء تحالفات طويلة الأمد، وتنظيميًا بعد انكشاف البنى الداخلية وغياب الشفافية والنقد الذاتي.
فضلًا عن، الضغط الإقليمي المتزايد من قبل أنظمة ترى في هذه الحركات تهديدًا للاستقرار، وشيطنتها إعلاميًا، وتراجع الدعم الدولي لها، حتى من قبل أطراف كانت تعوّل عليها (مثل تركيا).
هل انتهى المشروع أم أعاد ترتيب نفسه؟
ورغم التراجع الحاد، يصعب الجزم بأن مشروع الإسلام السياسي قد انتهى، ففي بعض الحالات، أعادت الحركات تموضعها في الفضاء المدني، أو ركزت على العمل الدعوي والاجتماعي، وفي حالات أخرى، نشأت تنظيمات جديدة أكثر براغماتية أو راديكالية، سواء على شكل مبادرات شبابية مستقلة، أو تنظيمات سرية.
كما أن وجود حواضن شعبية تؤمن بمرجعية دينية للحكم ما يزال قائمًا في بعض البيئات، خصوصًا في الأوساط المهمشة أو الغاضبة من الفساد السياسي.
الإسلام السياسي بعد 2011.. إرث ثقيل ومشروع مفتوح على المجهول
لذا يبدو أن الإسلام السياسي لم ينهزم تمامًا، لكنه لم يعد أيضًا المشروع الجامع كما كان يُقدَّم في بدايات القرن، فسقط في اختبارات الحكم، وتخلى عنه بعض داعميه، ولم يعد يملك نفس الجاذبية التي كانت له بعد الثورة.
ومع ذلك، فإن تحولات المجتمعات العربية، وتذبذب أداء الأنظمة القائمة، قد تتيح له فرصًا للعودة، ولكن بشكل مختلف، إن أحسن قراءة اللحظة.