مازالت الغارات الإسرائيلية لاستهداف الترسانة العسكرية السورية مستمرة، وتركزت عشرات الغارات على المطارات ومراكز الأبحاث العسكرية ومواقع للجيش ومصانع ومخازن للصواريخ الإيرانية ومعاقل لميليشياتها، والذي يمتد منذ نظام الأسد الأب، بينما كانت سوريا “تحتفظ لنفسها بحق الرد في الزمان والمكان والمناسبين”، وبعد سقوط نظام بشار الأسد الابن، توجه أيضًا تل أبيب طائراتها لاستهداف مواقع سورية
مقدرات الجيش السوري
ويرى مراقبون، أن الإجهاز على ما تبقى من مقدرات “الجيش العربي السوري” وبنيته العسكرية التحتية خلال 48 ساعة بشن نحو 500 غارة جوية مدمرة، وتنفيذ محرقة لأسطول سفن البحرية السورية، ربما يخرج سوريا للأبد من معادلة القوة العسكرية بالمنطقة.
لتتحقق خطوة أخرى من نبوءة ووصية الزعيم الصهيوني ديفيد بن غوريون أول رئيس وزراء لإسرائيل بضرورة القضاء على ثلاثة جيوش عربية رئيسة وتفتيت دولها، وهي العراق وسوريا ومصر على الترتيب، فيما تظل التساؤلات من دون إجابة حول طبيعة موقف المعارضة السورية حاليًا من الغارات الإسرائيلية وغموض موقف النظام السوري الجديد من هجمات إسرائيل وقضية احتلال الجولان، في ظل استمرار تل أبيب تنفيذ وعيد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بتغيير خريطة الشرق الأوسط منذ عملية السابع من أكتوبر 2023، وفقًا لموقع “اندبندنت”.
تهديد الأمن القومي العربي
وأكد خبراء استراتيجيون، أن تدمير إسرائيل قدرات الجيش الاستراتيجية في سوريا وإخراجه لسنوات من حسابات وتوازنات القوى يهدد الأمن القومي بالمنطقة العربية، حتى وإن ظلت دمشق شبه غائبة عنها لعقود.
وتوقعوا إمكانية فتح جبهة جديدة بعد سوريا، حيث إن”إسرائيل ونتنياهو وحكومته يحققون ما صرحوا به يوم الثامن من أكتوبر 2023 بتغيير خريطة الشرق الأوسط، إذ بدأ تقليم أظافر إيران، وتم الإجهاز على أذرعها في المنطقة بعدما قضى على معظم قدرات حركة (حماس) وأكثر من 50 في المئة من أسلحة (حزب الله) وتدمير كامل قدرات الجيش السوري، فضلاً عن التأثير في العراق وتحييد قدراتها، والدور القادم على العراق واليمن، وربما الجبهة الثامنة التي تلوح في الأفق هي الأردن بذريعة عملية تهريب السلاح إلى الداخل الإسرائيلي أو دعم المقاومة في الضفة الغربية”.
أسباب التدخل الإسرائيلي
وجاء التدخل الإسرائيلي سريعًا، فلم تمر سوى ساعات على هرب بشار الأسد من دمشق فجر الأحد الماضي حتى سارع الجيش إلى استغلال الفراغ ليشن 480 غارة جوية استهدفت ما يزيد على 80 في المئة من قدرات الجيش السوري وبنيته التحتية وأسلحته الرئيسة، وأظهرت بعض الخرائط توغل إسرائيل العسكري في جنوب سوريا وصل إلى نحو 25 كيلومتراً إلى الجنوب الغربي من العاصمة دمشق، والسيطرة على قمة جبل الشيخ الاستراتيجية، وعدد من القرى والبلدات بعمق يصل إلى 18 كيلومتراً داخل الأراضي السورية.
ويعتبر الهدف الأساس لتدخل إسرائيل ليس فقط تدمير جيشها، ولكن الاحتفاظ بدور مهيمن في إعادة تشكيل الدولة السورية، ولن تكون هناك علاقات عدائية متوترة للحكومة القادمة مع تل أبيب، فثمة تلميح بأن إسرائيل هي من ستختار النظام الحاكم في سوريا، ولا يوجد تصريح لـ”جبهة تحرير الشام” بإدانة الأعمال الإسرائيلية، على رغم أن كل ذلك من قدرات الشعب السوري.
ورغم نجاحات إسرائيل العسكرية تظل مكاسبها حتى الآن تكتيكية، فإنها أكبر خاسر استراتيجي في ما يتعلق بوضعها المستقبلي بالمنطقة، وما ستفرضه الوقائع الجديدة من أعباء أمنية وعسكرية على إسرائيل والولايات المتحدة، كما أنه بعد ما فعلته إسرائيل في حربها ضد معظم الدول العربية مدة 14 شهرًا كل العرب سيعيدون حساباتهم في العلاقة والسلام مع إسرائيل.
وخاصة بعدما حذر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب نتنياهو من أنه لا بد من علاقات حسن جوار في المنطقة، فالعدو الرئيس لإسرائيل هو السلام لأن الحروب هي التي تجمع الشعب الإسرائيلي خلف حكومته.
كما أنه إذا تمخض الوضع السوري عن نظام للإسلاميين والمتطرفين فستصبح إسرائيل إزاء تهديد أكبر من الجيش السوري الذي ظل يحتفظ فقط بحق الرد في التوقيت المناسب والزمان المناسب، من دون أن يفعل شيئاً من ذلك إلا نادرًا”.
وأرجع مراقبون مبررات إسرائيل لتدمير ما تبقى من قدرات عسكرية سورية تذهب لمنع وقوع هذه الأسلحة والقدرات في أيدي متطرفين كما زعمت، لكن ما تغفله إسرائيل هو أن الدولة في سوريا بأكملها أصبحت تدار من قبل “هيئة تحرير الشام” التي ظلت لفترات الوكيل السوري لتنظيم “القاعدة”، مما يثير عديدًا من التساؤلات، فهل تستمر الغارات إلى ما بعد تدمير القدرات العسكرية السورية؟ وإلى أي مدى يمكن منع إسرائيل من استباحة الأراضي العربية والتنصل من اتفاقات فض الاشتباك الموقعة بعد حرب أكتوبر؟ وهل تظل علاقة العداء بين سوريا وإسرائيل؟ لذلك تذهب سوريا تدريجًا إلى مفهوم سوريا المفيدة، ذلك المصطلح الغربي الذي يري في سوريا منزوعة القدرة العسكرية بلدًا مفيدًا، مما يعنى أن قرار نزع السلاح من سوريا كان معداً بصورة مسبقة قبل سقوط الدولة.
وهو ما يعني أن إسرائيل لن تسمح بإعادة بناء الجيش السوري، بل ربما إعادة استنساخ الجيش اللبناني المنزوع السلاح. كما لا يمكن إعادة تأسيس الجيش السوري حالياً قبل البدء في عملية سياسية، فلمن ستعطي السلاح والدعم؟ إن عملية التسليح ستعتمد على الحليف المستقبلي لسوريا، ومدى إمكانية إعادة تجميع الفصائل تحت جيش واحد في ضوء تبعية الميليشيات للقوى الإقليمية والدولية، كما أن السيناريوهات مفتوحة على احتمال عودة الاقتتال والاحتراب، مما يمكن أن يؤدي لتقسيم سوريا.
وفي ما يتعلق بالحدود فعملية السيطرة على الحزام الأمني للجولان وضرب اتفاق 1974 نوع من الضغط على الحكومة السورية لتقبل نوعاً من التطبيع يعيد الوضع في الجولان لما كان عليه قبل سقوط الأسد إذا قبلت سوريا تطبيعاً لعلاقاتها مع إسرائيل، ومن ثم القضاء على حلم “عودة الجولان السوري المحتل إلى حضن الوطن”.
كما أن إسرائيل تخشى النظام السوري الجديد، أو تحول مواقفه مستقبلاً، لا سيما أنه على رغم شعارات المقاومة ظلت جبهة إسرائيل من جهة سوريا هي الأكثر أماناً لها، وفي ظل التوجهات الدينية للنظام وتغير ميزان التوازن الاستراتيجي الإقليمي بصورة كبيرة لمصلحة إسرائيل وقضائها على وكلاء إيران، ربما لا يجعل أمامها عدو جديد سوى نظام معاد لها في سوريا ذي خلفية سياسة دينية متطرفة.
حق الرد السوري
وبالتأكيد، فقدت سوريا قدرة الردع، لكن ذلك لا يعني نظرياً سلبها الحق في الرد على هجوم إسرائيلي، فالهجمات الإسرائيلية التدميرية تأتي تحت مبررات استباقية فضفاضة وذرائع واضحة للعدوان، وليست ضمن ما يمكن تصنيفه بتدخلات شرعية للدفاع عن النفس أو وفق قرار لمجلس الأمن، وبالتأكيد ليست استجابة لطلب سوري بالتدخل العسكري.
وعلى مدار عقود باتت عبارة “تحتفظ سوريا بحق الرد في الزمان والمكان المناسبين” مألوفة لكل متابع للملف السوري – الإسرائيلي.
ومع توالي الغارات الإسرائيلية على الأراضي السورية منذ السبعينيات، اتضح عجز دمشق عن الرد بصورة عملية على رغم أن التصريحات السياسية لم تتوقف عن تأكيد هذا الحق.
وسبق أن أكد خبراء، أن الهجمات الإسرائيلية على سوريا تعد خرقًا واضحًا لميثاق الأمم المتحدة الذي ينص في المادة (2) على تحريم استخدام القوة ضد سيادة الدول.
كما أن ضرب إسرائيل أهدافًا داخل دولة ذات سيادة من دون تفويض أممي يمثل انتهاكاً صارخاً لمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.
ومنذ حرب أكتوبر 1973 وحتى اليوم تواصلت الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السورية. وتصاعدت هذه العمليات بعد اندلاع الأزمة السورية عام 2011، إذ استغلت إسرائيل الفوضى الأمنية وضعف الجيش السوري لاستهداف مواقع يقال إنها مرتبطة بإيران أو (حزب الله)، لكن الرد السوري ظل غائباً أو محدوداً، مما يشير إلى تفوق إسرائيلي واضح في ميزان القوى.
وفي الوقت الحالي، تتحدث تقارير، أن إسرائيل نجحت إلى حد كبير في شل قدرات الدفاع الجوي السوري واستنزاف بنيته التحتية وقصف أهداف حساسة، بما في ذلك مواقع استراتيجية قرب دمشق. هذه الهجمات لم تواجه برد فعل سوري مكافئ مما يعزز التساؤل حول صدقية التصريحات المتكررة عن حق الرد.
وعلى رغم هذه الانتهاكات تعتمد إسرائيل في تبرير عملياتها على مفهوم الدفاع عن النفس وفق المادة (51) من ميثاق الأمم المتحدة، إذ تدعي أن ضرباتها تستهدف منع تهديدات مباشرة من إيران أو “حزب الله” على أمنها.
ومع ذلك يبقى هذا التبرير محل خلاف كبير، إذ يتطلب الدفاع عن النفس وجود تهديد وشيك ومباشر، وهو أمر غالباً ما تفتقر إليه الذرائع الإسرائيلية، وبالنظر إلى العوامل السياسية والعسكرية والدبلوماسية الراهنة يبدو أن “حق الرد” السوري أصبح أكثر رمزية منه واقعاً، فقد نجحت إسرائيل ليس فقط في تقويض القدرات العسكرية السورية، ولكن أيضاً في خلق حال من الردع الاستباقي، إذ أصبحت تتجنب الانجرار إلى مواجهة قد تفاقم من أزمتها الداخلية.
وعليه، فإن تكرار عبارة “الزمان والمكان المناسبين” من دون أفعال ملموسة لا يحفظ حق الرد للدول، ويعكس بوضوح أن ميزان القوى يميل بشدة لمصلحة إسرائيل.
وإذا استمر هذا النمط من دون تغير، فإن “حق الرد” السوري قد يظل حبيس الخطابات السياسية، فيما تواصل إسرائيل فرض قواعدها على الأرض في ظل غياب ردع حقيقي.