يسعى النظام الإيراني لمواجهة المؤسسات المدنية المستقلة التي تدعم الأطفال المعرضين للعنف بعد عقدين من تنفيذه مشروع “رعاية الأطفال المشردين في الشوارع” مدعياً “دعم” الأطفال و”إعادة تأهيلهم” من خلال محاولة إبعادهم عن الأنظار بعد انتشار حضورهم الواسع في الشوارع.
وأقدم النظام أخيراً على إلغاء ترخيص الجمعية الطلابية المعروفة باسم “الإمام علي” التي كانت تغطي أكثر من ثلاثة آلاف من الأطفال المشردين. ويبدو أن إغلاق المراكز المعنية بدعم الأطفال العاملين في الشوارع واعتقال الناشطين المهتمين بحقوق الأطفال ضمن الخطط بعيدة الأمد للنظام لاستقطاب هؤلاء الأطفال واستغلالهم لمصلحته.
وكانت بلدية طهران قد أغلقت جمعية ناصر خسرو للأطفال العائدة إلى مؤسسة الأطفال واليافعين، في حين أن قوانين البلديات تنص على ضرورة دعمها لمثل هذه الجمعيات المدنية. وقد أعلنت طاهرة بزوه الناشطة في مجال حقوق الأطفال أن بلدية طهران تنوي تحويل إدارة مؤسسة ناصر خسرو إلى شخص آخر من أجل سداد ديونها، وكانت البلدية قد أغلقت في وقت سابق “جمعية نويد مهر لدعم الأطفال”.
وتتولى مؤسسة الرعاية الاجتماعية الإيرانية المسؤولية الأساسية لدعم شرائح المجتمع المعرضة للخطر والعنف، منهم أطفال الشوارع والمشردون. وكانت الحكومة الإصلاحية برئاسة محمد خاتمي قد أقرت مشروعاً بأن تتولى هذه المؤسسة إلى جانب 11 مؤسسة حكومية أخرى مهمة دعم هذه الشرائح والاهتمام بها، وفقا لصحيفة إندبندنت الفارسية.
وشرح هذا المشروع وظائف مختلفة للأجهزة الحكومية منها الأمن الداخلي وجمعية الهلال الأحمر ووزارة الرفاه والعدلية والصحة والتعليم ومؤسسة الضمان الاجتماعي والإذاعة والتلفزيون، كما أن البلديات معنية بتوفير أماكن مناسبة لتنفيذ المشروع.
ورغم أن مشروع رعاية الأطفال المشردين في إيران ينص على “دعم وتأهيل” الأطفال وتوفير التعليم لهم لكن ما شهدناه خلال الثلاثين عاماً الماضية هو مطاردة الأمن الداخلي وعناصر البلديات لأطفال الشوارع واعتقالهم بعنف ونقلهم إلى أماكن مؤقتة تابعة لمؤسسة الرعاية الاجتماعية. وتطلق هذه المؤسسة سراح هؤلاء الأطفال بعد 21 يوماً بعد أخذ تعهدات من ذويهم بعدم السماح لأطفالهم بالعودة إلى الشوارع فلم يكن هنالك أي تخطيط لدعم هؤلاء الأطفال وإعادة تأهيلهم.
وتحول مشروع إعادة تأهيل الأطفال فيما بعد إلى مشروع “تجميع الأطفال من الشوارع”؛ ما أثار احتجاجات الناشطين في مجال حقوق الأطفال، لكن بموازاة ذلك أبدت المؤسسات المدنية غير الحكومية أداء موفقاً في استقطاب الأطفال المعرضين للمخاطر من خلال دعمهم وإيوائهم في مؤسسات مثل جمعية “الإمام علي” ومدارس الأطفال المشردين ومؤسسة “بيت الأطفال”.
تعمل المنظمات المدنية التي تدير مشاريع لدعم الأطفال المشردين من خلال المساعدات الشعبية على ثلاثة أصعدة، هي استقطابهم وتعليمهم وإعادة تأهيلهم. غالبية هؤلاء الأطفال لا يملكون إمكانية التعليم في المدارس العادية بسبب فقر عوائلهم ويضطر كثير منهم إلى العمل في وقت يمضي فيه باقي الأطفال أوقاتهم في المدارس. وهذه المؤسسات التي تدير منازل في القرب من المناطق الفقيرة توفر فضاء آمناً للأطفال وعوائلهم كما توفر إمكان تعليمهم.
وتتولى المؤسسات المدنية مثل هذه المهام في ظل الفشل الحكومي في تشغيل مؤسسات رسمية لهذا الغرض من أجل دعم الأطفال الأكثر عرضة للخطر. الإمكانية الوحيدة التي توفرها الحكومة هي وضع أماكن في تصرف هذه المؤسسات، لكن هذه المساعدات أيضاً تواجه عراقيل متعددة وتوحي الإجراءات الأخيرة لبلدية طهران بأن الحكومة تريد وقف هذه المساعدات.
وبعد أن أغلقت بلدية طهران مؤسسة ناصر خسرو لحماية الأطفال أرسل القائمون على المؤسسة رسالة إلى مساعد الشؤون الاجتماعية والثقافية في بلدية طهران وكتبوا له: “كنا نشهد محاولات القضاء على انتشار الأطفال في الشوارع، لكن في الوقت الحاضر نشهد محاولات للقضاء على المؤسسات المعنية بدعم الأطفال”.
وأتى إغلاق مؤسسة ناصر خسرو لدعم الأطفال في وقت تغطي هذه المؤسسة 105 من الأطفال المعرضين للخطر حيث انضم كثير منهم إلى أسواق العمل مبكراً. وكانت المؤسسة قد أعلنت أنه في حال وضع إمكانات أكبر بتصرف القائمين عليها فإنها تستطيع استقطاب عدد أكبر من الأطفال المشردين.
محاولات النظام لاستغلالهم
فيما يهتم النظام الإيراني بإجراء مشاريع لغسيل الأدمغة من خلال المناهج الدراسية والتعاون مع رجال الدين وتعيين معلمين موالين للنظام وإجراء برامج تربوية مدروسة وفتح مراكز للباسيج في المدارس.
وبدأت هذه المحاولات منذ عام 2012 عندما أقرت وثيقة التطور الجذري لمؤسسة التربية والتعليم في المجلس الثقافي الثوري بشكل مستهدف. وعلى أساس هذه الوثيقة التي أقرت بواسطة وإشراف علي خامنئي خلال ولاية محمود أحمدي نجاد يجب تربية “أطفال ولائيين ومطيعين” لكي ينضموا إلى “جنود الحضارة الإسلامية الجديدة”.
ويقضي أكثر من ثلثي الأطفال الإيرانيين ثماني ساعات على أقل تقدير في المدارس، لذلك فهم عرضة للاستهداف الأيديولوجي والسياسي، في حين أن النظام ليس لديه مثل هذه الإمكانية بالنسبة لأطفال الشوارع.
هؤلاء الأطفال محرومون من التعليم في المناطق الفقيرة وينخرطون في العمل مبكراً ويقضي من تشمله منهم اهتمامات رعائية من قِبل المؤسسات المعنية بحقوق الأطفال أوقاتاً محدودة في التعليم.
وتركز هذه البرامج التعليمية على تدريب وتأهيل الأطفال المعرضين إلى الخطر، لكن محتوى التعليم هذا مختلف بشكل كبير عما يتلقاه باقي الأطفال في المدارس الحكومية.
ومن أجل استمرار هذا الوضع لا ترغب كثير من المنظمات المعنية بدعم الأطفال المشردين بتحدي السلطات من أجل استمرار عملها، لكن العراقيل التي تضعها الحكومة أمام النشطاء المعنيين بحقوق الأطفال تكشف رغبة جامحة لدى السلطات من أجل التأثير على جميع الأطفال ومنهم المشردون.
وندد كثير من هذه الجمعيات المدنية بإجراءات الحكومة وانتهاكها لحقوق الأطفال منها جمعية “الإمام علي”؛ لذلك قررت السلطات منع مثل هذه المؤسسات وفتح المجال أمام المؤسسات الموالية لأيديولوجية النظام، وتحصل هذه المؤسسات المقربة من الحكومة على الدعم من البلديات والمؤسسات الحكومية.
بينما توجهت انتقادات شديدة لمؤسسة الرعاية الاجتماعية خلال السنوات الماضية؛ إذ يؤكد النشطاء أن ملاحقة الأطفال في الشوارع واعتقالهم لا يعني تأهيلاً إذ توجه ضربات نفسية وعقلية وجسمية كبيرة لهم ولعوائلهم.
وكانت مؤسسة الرعاية الاجتماعية قد أعلنت استبدال مشروع “تأهيل” أطفال الشوارع بمشروع “الدعم الاجتماعي”، وأعلنت أن هذا المشروع ينص على تحديد الأطفال المشردين، وفي المرحلة الثانية تعمل المؤسسة على إجراء اتصال مع عوائلهم بهدف تأهيلهم.
كما وردت تقارير عن دخول “القوى الجهادية” في هذا المشروع وقد تنتمي هذه القوى إلى مؤسسات الباسيج والحرس الثوري، وتتظاهر بالعمل في الأنشطة المعمارية والاجتماعية لكنها في الواقع تروج لأيديولوجية وأجندة النظام في المناطق المحرومة، وقد تولت هذه القوى مسؤوليات كثيرة بخاصة خلال رئاسة محمد باقر قاليباف في بلدية طهران.
في حين أن المؤسسات المدنية المعنية برعاية الأطفال المشردين كانت تعاني خلال تلك الفترة من قلة الإمكانات والدعم، لكن بلدية طهران خصصت ميزانية خاصة إلى مؤسسة “الإمام الرضا”. وكانت زهراء مشيري زوجة قاليباف وعدد آخر من المقربين من الرئيس الحالي لمجلس الشورى يتولون مجلس إدارة هذه المؤسسة الخيرية، وكانت لها أنشطة مشكوك فيها بالتعاون مع ما يطلق عليها النظام بـ”القوى الجهادية”.
وخلال السنوات الماضية أخذت المؤسسات الخيرية الحكومية تنمو في ظل المضايقات التي وضعها النظام أمام المؤسسات المدنية منها، جمعية “الإمام علي” التي يديرها طلبة الجامعات؛ إذ وضع النظام مصيدة أمام الأطفال بذريعة “الدعم”، وقد رأينا انضمام عدد من الأطفال في الاحتجاجات الأخيرة لعمليات قمع المحتجين.
وبعد نشر صور لأطفال شاركوا في القمع إلى جانب قوى الأمن خلال الاحتجاجات الأخيرة في إيران كشف أعضاء جمعية “الإمام علي” أن هؤلاء الأطفال الفقيرين زج بهم لقمع المحتجين مقابل منحهم تموينات غذائية، ويعرف النظام أن استغلال الأطفال المشردين بسبب الفقر والحرمان الاجتماعي ليس صعباً؛ لذلك وعد بحل قضيتهم خلال السنوات الثلاث القادمة للسيطرة على المشاريع المعنية بهم.
وتعمل بلدية طهران على إغلاق المؤسسات المدنية المعنية بدعم أطفال الشوارع بضوء أخضر من الأجهزة الأمنية. وكان مدير مؤسسة الرفاه والشؤون المجتمعية التابعة لبلدية طهران، أحمدي صدر، قد ادعى أنه إذا ما وضعت ميزانية كافية بتصرفه فإن بلدية طهران ستغلق ملف أطفال الشوارع مرة واحدة.
وكان هذا المسؤول قد شرح كيفية تنفيذ برامج البلدية؛ إذ أكد أنه ينوي إيجاد “مراكز جهادية” للتركيز على الشؤون الاجتماعية وحل مشكلات الأطفال من خلال متابعة أهداف مثل “التعليم والتأهيل والتعرف على الاستعدادات”.
لكن هذه الوعود تثير القلق لأسباب عدة منها: التهديدات التي أطلقها رئيس بلدية طهران علي رضا زاكاني بالتزامن مع توليه رئاسة البلدية، حيث أكد أن مشاهدة المدمنين وأطفال الشوارع يشكل عاراً علينا، وسوف نعمل على القضاء عليها بالتعاون مع الأمن الداخلي، ولم تتضمن تصريحات زاكاني اهتمامه بتأهيل هؤلاء الأطفال.
أما القلق الآخر فيتعلق بإغلاق البلدية للمؤسسات والأماكن التي تديرها المؤسسات المدنية من خلال الدعم الشعبي والتبرعات، في حين أن البلدية معنية بمنح أماكن لهذه المؤسسات المدنية طبقاً لقرار تأهيل الأطفال المشردين الصادر عن الحكومة.
وتأتي هذه الادعاءات في وقت تؤكد فيها اليونيسف أن انخراط الأطفال في العمل يستمر ما دام هناك فقر، لذلك لا يمكن القضاء على ظاهرة الأطفال العمال إلا بالقضاء على الفقر. وقد تلقى النظام الضربة الكبرى خلال الاحتجاجات الأخيرة من قِبل الأطفال واليافعين؛ إذ انتفضوا ضده.
وتكشف الإجراءات الجديدة أن النظام يخطط لإقامة مشاريع غسيل أدمغة للأطفال في رد فعل أمام انضمام الأطفال إلى الحركة الاحتجاجية التي عزا أسباب إطلاقها إلى “الأعداء” والتأثير بما ينشر على الإنترنت، لذلك عمد النظام إلى التعاون مع رجال الدين في المدارس وتغيير المناهج الدراسية.
وقد شملت هذه الخطط الأطفال المشردين أيضاً، وقد وضع النظام مسؤولية تحقيق هذا الهدف بحوزة البلديات. وأغلقت بلدية طهران على هذا الأساس أماكن كانت ترعى الأطفال بواسطة نشطاء مدنيين مهتمين بحقوق الأطفال لإحالة هذه المهمة إلى مؤسسات حكومية تعمل على أساس مبادئ النظام الإيراني.