لم تكن بولندا تتوقع أن يتحول خلاف عائلي في سكن جامعي إلى محور واحد من أكثر الملفات الأمنية تعقيدًا في أوروبا، فخلال الأشهر الماضية، انفجرت في وارسو قضية تحمل مزيجًا من الجاسوسية والتخريب والتلاعب، بطلها ناشط روسي شاب يعيش في المنفى وارتبط اسمه بشبكة يُعتقد أنها تعمل لصالح جهاز الأمن الفيدرالي الروسي.
القضية بدأت برسالة نصية عابرة بين زوجين مختلفين، لكنها سرعان ما خرجت من سياقها الخاص لتصبح في قلب مواجهات أمنية بين موسكو والاتحاد الأوروبي، في ظل تصاعد الهجمات الهجينة بعد حرب أوكرانيا.
من خلاف منزلي إلى جهاز الاستخبارات البولندي
وتعود جذور القصة إلى أبريل 2023، حين كتبت إيرينا روغوفا رسالة نصية إلى زميلهما الروسي المنفي في بولندا تقول فيها إن زوجها، إيغور روغوف، يرسل تقارير عن معارضين روس في أوروبا إلى جهاز الأمن الروسي.
كان من المفترض أن تبقى هذه الكلمات داخل نطاق الخصومة الزوجية، إلا أن وقعها كان أكبر من أن يُتجاهل، إذ تسربت الرسالة بين دوائر المنفيين الروس، وانتشرت كالنار في الهشيم، قبل أن تجد طريقها إلى الأجهزة البولندية التي بدأت في رصد تحركات روغوف ومحيطه.
طرد مفخخ يفتح باب التحقيقات الواسعة
وبعد أكثر من عام على الرسالة، وتحديدًا في يوليو 2024، عثرت السلطات البولندية على طرد يحتوي على مواد متفجرة في مستودع بوسط البلاد، كان موجَّهًا إلى روغوف نفسه.
لم يكن الطرد مجرد حادثة غامضة، بل كشف التحقيق أنه جزء من شبكة عمليات مرتبطة بمخطط روسي لإرسال طرود حارقة عبر شركات شحن أوروبية، وهي سلسلة من الهجمات التي تزامنت مع حرائق في مراكز لوجستية ببريطانيا وألمانيا.
هذا الاكتشاف فتح الباب أمام ملف جنائي ضخم، ووضعت النيابة البولندية روغوف في مواجهة اتهامات ثقيلة تتعلق بالتجسس والتعاون مع جهاز الأمن الفيدرالي، إضافة إلى دور مزعوم في تمرير معلومات حساسة عبر شبكة تعمل خارج حدود بولندا.
حياة مزدوجة.. بين المنفى والعمل السري
وداخل الأوساط الروسية المعارضة، كانت صورة روغوف مختلفة تمامًا قبل هذه التطورات؛ عرفه رفاقه كشاب لم يبرز سياسيًا، باستثناء ظهوره خلال احتجاجات بيلاروسيا عام 2020 بينما يتعرض للضرب على يد قوات الأمن.
انتقل لاحقًا إلى بولندا للدراسة مع زوجته، وبدت حياته اليومية بعيدة عن السياسة. ومع ذلك، ظهرت إشارات لاحقة أثارت الشكوك حول وضعه المالي وسفره المتكرر وطلبه نقل مبالغ مالية صغيرة من روسيا.
كانت تلك المؤشرات مبعث قلق لدى بعض زملائه، وطرحت أسئلة عن مصدر دخله الحقيقي وعن طبيعة علاقاته خارج بولندا.
تسريبات زوجية تتحول إلى دليل جنائي
التصعيد الأكبر وقع عندما أرسلت زوجته رسالة جماعية في أبريل 2023، قالت فيها إن زوجها مُجنَّد منذ سنوات من قبل الأجهزة الروسية، وإن نشاطه المعارض كان واجهة لتسهيل عمله.
رغم أنها تراجعت لاحقًا عن كلامها واعتبرته جزءًا من خلاف بينهما، فإن ما كشفته كان قد وصل بالفعل إلى الأجهزة البولندية، ومع تقدم التحقيقات، لم تعد إيرينا مجرد شاهدة، بل متهمة هي الأخرى بالتجسس ودعم تمرير معلومات حساسة عبر قنوات غير رسمية.

