في قلب المشهد الأوروبي الذي يشهد تزايدًا لظواهر التطرف الخفي، تسعى تيارات الإسلام السياسي في ألمانيا إلى إعادة تموضعها تحت غطاء “الاحتواء الاجتماعي”، وبدل الخطاب الديني الصارم أو الدعوات الأيديولوجية الصريحة، تتجه هذه الحركات نحو استغلال مشاعر التهميش والإقصاء التي يعيشها بعض الشباب في المدن الألمانية الكبرى.
تستخدم التنظيمات مقاطع فيديو مؤثرة على تيك توك ويوتيوب، تتناول قضايا العنصرية والتمييز، لتبدو في ظاهرها تعاطفًا إنسانيًا، لكنها في جوهرها “طعم عاطفي” يقود إلى دوائر مغلقة من الفكر المتشدد، بحسب ما كشفته دراسة بحثية حديثة.
الفضاء الرقمي.. أرض خصبة لتجنيد المهمشين
وتشير الدراسة التي أجرتها “المؤسسة الإقليمية للإعلام” في ولاية شمال الراين-وستفاليا، إلى أن الإسلاميين باتوا يتسللون عبر الفضاء الرقمي مستخدمين لغة الشكوى والوجع الاجتماعي بدل الخطاب الأيديولوجي الصارم.
وتوضح النتائج، أن التعليقات أسفل هذه المقاطع تمثل بيئة مثالية لتبادل الرسائل المبطنة، حيث يتم التفاعل أولًا بمظاهر التضامن مع ضحايا العنصرية، قبل أن تبدأ عملية “الاحتواء” التدريجي عبر الحوارات والانخراط في مجموعات خاصة.
ويستغل المنتمون لتلك التيارات شعور الإحباط لدى فئة من الشباب الذين لم يجدوا فرصًا حقيقية في المجتمع الألماني، فيقدمون أنفسهم كملاذٍ بديل يعد بالكرامة والانتماء، وهي الاستراتيجية التي وصفتها الدراسة بأنها “احتواء اجتماعي بطابع سياسي”.
مقاطع بلا مخالفة.. وتعليقات تعج بالتطرف
ورغم أن غالبية تلك المقاطع لا تحتوي على أي محتوى مخالف للقانون الألماني، إلا أن خطرها يكمن فيما يدور داخل أعمدة التعليقات المصاحبة لها.
فوفق تحليل الباحثين، تتصاعد داخل هذه المساحات الرقمية نقاشات متطرفة وتحريضية تمهد للتجنيد، بل تستخدم كقنوات للتعارف بين المتأثرين بالفكر الإسلاموي والمنتمين إلى التنظيمات.
وتلفت الدراسة إلى أن بعض وسائل الإعلام الألمانية أبلغت بالفعل عن انتهاكات قانونية في التعليقات، من بينها تحريض على الكراهية ونشر رموز محظورة.
مسؤولية المنصات.. والبحث عن توازن رقمي
الدراسة أوصت بضرورة أن تتحمل المنصات الرقمية مسؤولية مباشرة في كبح هذه الظواهر، من خلال تشكيل فرق إشرافية قادرة على رصد المحتوى المعادي للديمقراطية، وإزالة التعليقات التي تتضمن تحريضًا أو محاولات تجنيد.
كما دعت إلى تعاون أوسع بين شركات التكنولوجيا والهيئات الأمنية ومراكز الأبحاث، لمواجهة الاستخدام الممنهج للإعلام الرقمي كوسيلة للتطرف الناعم.
واعتبر الخبراء، أن المواجهة الفعلية لا يجب أن تكون أمنية فقط، بل مجتمعية أيضًا، عبر تمكين الشباب من أدوات التفكير النقدي وتعزيز الاندماج الاجتماعي في بيئاتهم المحلية.
وتظهر هذه النتائج أن تيارات الإسلام السياسي في ألمانيا تمر بمرحلة إعادة تموضع واضحة، إذ لم تعد تراهن على الخطاب التقليدي بقدر ما توظف أساليب التواصل الحديثة والعواطف الإنسانية لبسط نفوذها.