منحت ثورة يناير جماعة الإخوان المسلمين في مصر فرصة انتظرتها كثيراً منذ نشأتها دون تخطيط منها أو ترتيب؛ لتقفز إلى الحكم في البلاد، بعد أن أصبحت أمامها ساحة سياسية شبه خالية من فاعلين سياسيين على درجة من التنظيم والاستعداد، لتحقق أهدافها السياسية التي انتظرتها لأعوام.
وفي دراسة بعنوان “العلاقة بين الحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية: دراسة مقارنة لأحزاب الحرية والعدالة المصري والنهضة التونسي والعدالة والتنمية المغربي”، أوضحت مسار الجماعة في مصر منذ الثورة، ومسارات الهبوط والفشل التي شهدتها بالبلاد.
وقالت الدراسة الحديثة: إنه بعد ثورة يناير كانت الجماعة هي الأكثر تنظيماً واستعداداً للدخول في أيّ استحقاق انتخابي والفوز به بنسبة كبيرة؛ نتيجة لانتشارها وتغلغلها في المجتمع من خلال المساجد والنقابات والجمعيات وغيرها من المسارات التي كانت تعمل بها، ونتيجة كذلك لاعتمادها على خطاب ديني يمثل عامل جذب للكثيرين، فتم منحها الفرصة ووصلت بالفعل إلى منصب الرئاسة، بعد أن استحوذت من قبل على أغلبية مقاعد البرلمان.
كما شاركت في وضع دستور للدولة بنسبة تمثيل كبير لأعضائها، لكن سرعان ما تحول ذلك الصعود إلى هبوط، وذلك النجاح إلى فشل، وتلك الرغبة في البقاء والاستمرار إلى إنهاء للتجربة، على نحو لم تتوقعه الجماعة وربما كثير من خصومها.
ومنذ أن نشأت الجماعة في عشرينيات القرن الماضي وهي تقدم نفسها كجماعة شمولية تسعى لاستعادة الخلافة التي سقطت قبل ذلك بأعوام قليلة، وعلى الرغم من النقاشات التي دارت منذ أعوام طويلة من خلال عدد من الكتاب والمفكرين الذين ينتمون للإخوان وللحركة الإسلامية عموماً ومن غيرهم كذلك بضرورة الفصل بين العمل السياسي والدعوي، خاصة بعد ما جنته الجماعة ذاتها من ويلات بسبب المزج بينهما.
وجاء ذلك لدرجة جعلت مؤسس الجماعة نفسه يتراجع عن ذلك في أواخر عمره بعد حلّ الجماعة ودخول العديد منهم السجن على إثر قضية السيارة الجيب، وخلافاته مع النظام الخاص التي رأى أنّه فقد القدرة على السيطرة عليه، وأنّ الجماعة لم تجنِ من ممارسة السياسة والعنف سوى المتاعب والأزمات والدخول في صدامات، حتى قال قبل وفاته: “لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لعدت بالإخوان إلى عهد المأثورات”، ويعني لعدت إلى أسلوب التربية فقط دون ممارسة السياسة؛ فرغم كل ذلك رفضت الجماعة الفصل بين العمل السياسي والعمل الدعوي، على الرغم من تحول عدد من فروع الجماعة في بعض الدول إلى الفصل ما بين العمل السياسي والدعوي.
وهو ما يعني تكوين حزب منبثق من الحركة ولكن بشكل مستقل، بحيث يمارس الحزب العمل السياسي وتمارس الحركة دورها التقليدي المتمثل في الدور الدعوي والتربوي، وقد رفضت الجماعة من قبل تأسيس مجموعة من أفرادها لحزب الوسط في التسعينيات، وترتب عليه انفصالهم عن الجماعة تنظيمياً حينها.
ويرجع إصرار الجماعة على هذا المزج إلى سببين: أحدهما فكري والآخر براغماتي؛ أمّا السبب الفكري، فيتمثل في انطلاقها من فكرة “شمولية الإسلام”، حيث ترى الجماعة وفق أدبياتها أنّ الإسلام شامل لكل مناحي الحياة، وقد عبّر عن ذلك مؤسسها بأنّ الإسلام دين ودولة، وأنّ الإخوان جماعة إصلاحية شاملة تفهم الإسلام فهماً شاملاً، وتشمل فكرتهم كل نواحي الإصلاح في الأمّة، وأنّها دعوة سلفية وحقيقة صوفية وهيئة سياسية… إلخ، أمّا السبب البراغماتي، فيتمثل في استفادة الجماعة عمليّاً من ذلك المزج؛ حيث إنّ عملية “تديين” العمل السياسي يكسب خيارات وممارسات الجماعة السياسية قداسة؛ لأنّها تخاطب الناس بأنّ أفكارها وبرامجها منطلقة من الدين وتعبّر عن الفهم الصحيح له، وأنّ ممارستها تُعدّ تطبيقاً له، كما أنّها تستطيع حشد الأنصار واكتساب الأصوات المؤيدة لها في الانتخابات من خلال الخطاب السياسي القائم على أساس ديني والمغلف بغلاف الدين.
وتناولت الدراسة في الفكرة الرئيسية بها، ما يتعلق بتأثير نمط العلاقة بين الحركة الاجتماعية والحزب المنبثق عنها على قدرة الحزب على البقاء في الحياة السياسية، وعن المآلات المختلفة للأحزاب السياسية التي نشأت من رحم حركات اجتماعية، حيث يعقد الباحث مقارنة بين 3 حركات تتشابه في الخلفية الأيديولوجية، لكنّها تختلف من حيث مآلات الأحزاب التي انبثقت منها، ليصل في النهاية إلى أنّ طبيعة العلاقة بين الحركة والحزب هي العامل الرئيسي في ذلك.
أمّا عن العيوب التنظيمية التي أورثتها الجماعة إلى الحزب كذلك، فذكرت الدراسة أنّها تتمثل أوّلاً في العمل السرّي الذي اعتادت عليه الجماعة، والذي نتج عنه انغلاقها على ذاتها وعدم تقبلها للنقد وعدم قدرتها على التفاعل الإيجابي مع الآخر، والعيب الثاني هو نمط الاستبداد الكامن في بنيتها وعدم تمرسها على الديمقراطية بداخلها، والعيب الثالث هو أولوية المحافظة على التنظيم على حساب أيّ شيء آخر.
وترى أنّ “العضوية في جماعة الإخوان لا تُمنح لأيّ راغب، فلا بدّ أن يكون مسلماً حسن السيرة، وأن يُزكيه 3 من أعضائها، وقد سار حزب الحرية والعدالة على المنوال نفسه، فشدد على تزكية طلب العضوية من أحد الأعضاء المؤسسين في الحزب، وأحد أعضاء أمانة الحزب بالمحافظة. فاتبع الحزب إجراءات للتحقق من تماثل العضو اجتماعياً ودينياً”.
ومع تطور نشاط الإخوان تطور هيكلهم التنظيمي واتخذ شكلاً هرميّاً، وبعد التغيير السياسي لم تستوعب الجماعة القيم الديمقراطية في بنائها الداخلي”، كما يرى أنّ “وجود تنظيمات عسكرية داخل الحركة دليل على انتفاء الديمقراطية الداخلية، لأنّ هذه التشكيلات تدار بشكل سرّي، كما أنّ وجودها ينتقص من الطابع المدني للحركة، ففي وقت مبكر أسست لائحة 1935 لتنظيم عسكري، وغلب الطابع السرّي على الحركة خلال الخمسينيات والستينيات، وعانى التنظيم من ازدواجية بين السرّية والعلنية، وقد أكدت بعض الشواهد احتفاظ الجماعة بتنظيمها الخاص، مثل واقعة ميليشيات الأزهر، وعقب فض اعتصام الإخوان، وتشكل اللجنة الإدارية العليا، نُسب إليها شرعنة العنف المسلح”.
وما نراه اليوم من فشل التنظيم، فهو حصاد جملة من الأخطاء والعيوب الفكرية والتنظيمية الراسخة في بنيتها، ولم تعمل على إصلاحها أو مراجعتها في أيّ وقت، وعلى الرغم من وجود عدد من الأسباب والعوامل التي ربما ساهمت في صناعة ذلك الفشل؛ إلّا أنّها تظل عوامل ثانوية، بينما العامل الرئيسي هو العيوب الذاتية الموجودة في الجماعة والتي أورثتها حزبها الوليد؛ فصار مجرد ظل لها حاملاً العيوب نفسها، عاجزاً عن الاستقلال والقيام بدوره ووظيفته المنوطة به؛ فسقط وسقطت معه ربما بصورة نهائية.