تعاني جماعة الإخوان المسلمين من الجمود والتراجع كحال باقي تنظيمات الإسلام السياسي، حتى صارت نموذجًا لكل التنظيمات الأخرى التي حذت حذوها في اتجاه التكلُّس الديني والسياسي، وذلك بعدما رفضت طرح أي مبادرات حقيقية سواء فكرية وفقهية أو على مستوى الممارسة السياسية.
وكما رفضت إجراء المراجعات داخليًّا، فقد رفضت أيضًا أي طرح لها من خارجها، حتى باتت الجماعة نفسها خارج دائرة العمل والزمن. صحيح أن بعض بقاياها وإن بقيت تعمل وموجودة حاليًّا في بعض الأقطار، غير أنها ما زالت تعيش بعقل مائة عام مضت، وفقا لدراسة حديثة نشرها مركز تريندز للبحوث والاستشارات.
وأشارت الدراسة إلى أنه في الوقت الذي قارب فيه عمر جماعة الإخوان المسلمين المائة عام، إلا أنها لم تمر بأي تجربة تتعلق بمراجعة أفكارها قديمًا أو حديثًا، حيث ترى أن أفكارها تمثّل قمّة الاعتدال الديني، ولذلك ظلت أفكار المؤسس الأول حسن البنا محصّنة بشكل كامل طَوال العقود الماضية بعيدًا عن أي نقد، فضلا عن إن أفكار “الإخوان” التي لم تراجعها الجماعة تمثّل قاعدة المناهج التربوية التي يستقيها أعضاؤها في اجتماعاتهم الأسبوعية وتُشكّل جانبها الروحي والفكري، حيث يرتبط بها عضو الجماعة منذ أن ينضم إليها ويظل مواظبًا عليها حتى وفاته.
وقد اتجه “الإخوان” في ظل ظروف معينة إلى القيام ببعض التراجعات على مستوى الممارسة السياسية لكن من دون الاقتراب من الأفكار المؤسِّسة للتنظيم سواء التي طرحها المؤسِّس الأول أو تلك التي تمثّل ركيزة الجماعة في الفكر والعمل، وحتى هذه التراجعات كانت قليلة وارتبطت ببعض الصدمات التي تعرّض لها التنظيم على مرّ التاريخ. وقد طالب بعض شباب الجماعة داخل السجون بإجراء مراجعات، لكن هذا الطلب كان في إطار المطالبات الفردية التي لم تعترف بها الجماعة، بل على العكس حاربتها كما حاربت الداعين إليها.
وتبحث هذه الورقة إمكانية أن يتجه “الإخوان” إلى إجراء مراجعات فكرية مع وجود الظروف الداعمة لذلك، من قَبيل وجود قيادات الجماعة داخل السجون لفترة طويلة وغالبًا في زنازين مجمّعة، فهل يعدُّ اعتذار “الإخوان” الذي نلمحه في بعض البيانات أو الخطابات أو التصريحات التي أدلى بها قادة الجماعة خارج السجون مقدمةً للمراجعات أم أنه يمكن تحميله على مفهوم التراجع السياسي؟ وبالتالي يمكن للجماعة فيما بعد العودة إلى أفكارها من جديد.
وفي إطار نجاح برامج مواجهة الجماعة عربيًّا، هل يتّجه “الإخوان” إلى مراجعة أفكارهم على غرار بعض تنظيمات العنف والتطرف مثل “الجماعة الإسلامية” وتنظيم الجهاد بمصر في تسعينيات القرن الماضي؟ أم أن الجماعة سوف تتجه إلى التراجع عن بعض الأفكار سياسيًّا، كمحاولة للالتفاف على برامج المواجهة الأمنية والفكرية، وإعادة تقديم نفسها من جديد؟
ورفضت جماعة الإخوان المسلمين إجراء المراجعات الفكرية والفقهية كلّية، كما لم تسمح لعناصرها بانتقاد التنظيم على المستوى السياسي، فلم تتجه الجماعة لمراجعة أفكارها أو أدائها السياسي في أي مرحلة زمنية كانت، إذ إنها ترى أن النقد الذاتي مفهوم غريب على المسلمين، بل إنها لا تراه مصطلحًا إسلاميًّا ولا تفهمه إلا في إطار التشهير.
وبرغم ذلك الموقف الرافض فقد ظهرت بعض المحاولات التي لم تهتم بها الجماعة ولم تتبناها، وحالت دون انتشارها، وتكاد الكتابات المتعلقة بهذه المحاولات أن تكون ضئيلة للغاية. وهناك عدة مستويات من الكتابة في هذه المساحة، الأول، ما دوّنه بعض شباب الجماعة داخل السجون، والثاني كتبه أشخاص محسوبون على الجماعة لكن الأخيرة تعتبر أن أفكارهم لا تمثّلها، والثالث تلك الدعوات التي أطلقتها بعض الأسماء البارزة داخل الجماعة.
وفيما يتعلق بالمستوى الأول الخاص بتدوينات شباب الجماعة، يقول عمرو عبد الحافظ، أحد هؤلاء الشباب الذين انشقّوا عن الجماعة أثناء قضائه عقوبة بالسجن، إن مراجعاتنا جاءت في محورين رئيسين: أولهما، مراجعة المواقف السياسية للجماعة منذ يناير 2011 حيث انتهينا إلى أن الجماعة خالفت المنطق السياسي في معظم قراراتها وتوجّهاتها فدخلت بنفسها وبالبلد في صدام لم تُحسن حساب تبعاته، ومن ثَم يصبح العمل وفق قواعد السياسة باحتراف ضمن أهم ملامح المشروع الجديد.
وثانيهما، مراجعة المنطلقات الفكرية التأسيسية والمقولات الفكرية الكبرى عند حسن البنا وغيره من منظري الجماعة، حيث اكتشفنا وجود ثغرات في الفكرة الرئيسية؛ مثل اعتبار التراجع السياسي للأمة هو سر تأخرها، بينما الصحيح من وجهة نظرنا أن الأمة تراجعت حضاريًّا بشكل كامل ولم تتراجع سياسيًّا فحسب، وبالتالي فإن التغيير لا يتمركز حول إصلاح الحكم ووصول الجماعة إلى السلطة، وإنما التغيير يتطلب إصلاح جوانب عديدة يكون الحُكم أحدها وليس مركزًا لها، إذن يصبح الصراع المحتدم حول السلطة والوصول إليها ليس هو هو المرتكَز الذي ينبغي أن نتمحور حوله.
أما المستوى الثاني من الكتابة، فمن أبرز الأمثلة عليه، الكتاب الذي حرره وقدّم له د. عبد الله فهد النفيسي، وحمل عنوان: “الحركة الإسلامية: رؤية مستقبلية أوراق في النقد الذاتي”، الذي شكّل محاولة لنقد ماضي الجماعة وتحديد أخطائها سواء في ما طرحته من أفكار أو ممارستها السياسية، وقد رصد الكتاب بعض المشكلات التي تتعلق بأخطاء “الإخوان” قائلًا: “من كوارث العمل الإسلامي وارتداده وانقلاب نشاطه الفكرُ الحزبي، فعندما يكسب تنظيم ما عضوًا يدين بالطاعة ولا يُناقش ويتابع الأوامر، فهذا يُعتبر منتميًا والعكس بالعكس، وكان من نتائج هذه الطريقة التربوية أنه خرج جيل أو مجموعة كبيرة من الشباب تنتظر الأوامر فقط وبذلك حرمت من ميزة الإبداع والحركة ذاتية”.
أما المستوى الثالث، فمن أبرز الأمثلة عليه، المقالات التي كتبها عصام تليمة، الذي عمل مديرًا لمكتب يوسف القرضاوي المؤيد لجماعة الإخوان المسلمين وسكرتيرا خاصا له على مدى سنوات، حيث طالب بعزل جميع قيادات الصف الأول لصالح جيل جديد من الشباب، وبالفصل بين العمل الدعوي والعمل الحزبي داخل الجماعة، وكذلك بتجديد أدبيات الجماعة ذات الطابع الإصلاحي لتتناسب مع “مرحلة العمل الثوري”، وذهب أيضًا إلى ضرورة قبول أعضاء الجماعة للنقد الموجّه إليهم وللجماعة باعتبار ذلك وسيلة لإصلاحها، بل طالب بإعمال مبدأ محاسبة قيادات الجماعة في مجال النجاحات والإخفاقات على السواء.
وقد تعاملت الجماعة مع أعضائها الذين كانوا يطلقون فكرة المراجعات، وفق منهجين، إما أن يقوم هذا العضو بالخروج منها طواعية، ومن أبرز الأمثلة على ذلك، الدكتور إبراهيم الزعفراني والدكتور السيد عبد الستار المليجي، اللذَين كانا عضوين في مجلس شورى الجماعة، لكنهما باتا خارجها بسبب الدعوة الدائمة للمراجعة، وإما أن تنبذه وتعنّفه وتتخلّى عنه، وفي هذا السياق، يقول معتقل إخواني سابق: “كان التعامل معنا من قبل التنظيم كارثيًّا، إذ تعرّض كل مَن وقّع على إقرارات التوبة والمراجعات للتعنيف والنبذ والضرب، وحتى قطع المساعدات المالية عن أهله خارج السجن ووقف دعمه القانوني بحيث كان البعض يذهب للتحقيق أمام القضاء فلا يجد محاميًا يترافع عنه.
وقد ردّت الجماعة على دعوات عصام تليمة، مؤكدة أنها اتّخذت بالفعل بعض التغييرات حيث أعلنت في مطلع عام 2015، تعيين متحدث إعلامي من جيل الشباب، وفي إبريل 2015 أعلنت أنها أجرت انتخابات أدّت إلى تغييرات واسعة طالت ستين في المئة من صفوف قيادات مكاتبها الإدارية داخل مصر، كما أنشأت الجماعة ما عرف بمكتب شؤون جماعة الإخوان المسلمين خارج مصر، وهو ما أكده جمال حشمت، القيادي الإخواني، في لقاء صحفي حيث قال: إن الجماعة قامت بهذه الإجراءات تجاوبًا مع المتغيرات.
كذلك تعاملت الجماعة مع الكتاب الذي حرّره وقدّم له د. عبد الله فهد النفيسي، بنوع من التجاهل، فرغم أنه ضم عددًا كثيرًا من الأوراق البحثية، إلا أنه لوحظ عدم مشاركة أي من قادة الجماعة أو حتى أعضائها في الكتاب، وانحصرت المشاركات بين رموز محسوبة على التيار الإسلامي أو مناصرين للجماعة لكن غير منتمين لها تنظيميًّا، الأمر الذي يشير إلى عدم رضا الجماعة عن الكتاب.
يزعم “الإخوان” أنهم لم يمارسوا عنفًا، وأن ممارستهم للعنف كانت ترتبط بظرف سياسي، كما أنهم لم يعترفوا أنهم أخطؤوا في تفسير نص ديني أو أنهم قاموا بتأويل بعض الآيات خروجًا عن سياقها، ولذا لم يرَوا حاجة إلى مراجعة أفكارهم، أو حتى الاعتذار عمّا بدر منهم في ما يتعلق بالسلوك الذي عكسه تفسيرهم الخاطئ للنصوص، ولذا يبقى عدم اعتراف “الإخوان” بممارسة العنف هو العقبة الأولى أمام عدم مراجعتهم للأفكار، فكيف يراجعون أفكارًا يؤمنون أنها سلمية تمامًا وأنها تنبذ العنف، حتى إنهم أكّدوا أنهم يتعبّدون اللهَ بأعمال النظام الخاص الذي أنشئ قبل ثورة 1952 من أجل أن يكون ذراعًا عسكريًّا للجماعة.
وعمومًا لا يوجد في تاريخ جماعة الإخوان المسلمين ما يؤكد أن الجماعة راجعت أفكارها، برغم عمرها الممتد، وهذا ما يجعل البعض يُراهن على عدم اتجاهها إلى إجراء أي مراجعات سواء على المدى القريب أو البعيد، ودلّل هؤلاء على صحة وجهة نظرهم، بالإشارة إلى الحال الذي تمرُّ به الجماعة، فبرغم أنها تعرّضت لجملة من التطورات الدراماتيكية في السنوات الماضية، على نحو لم تعرفه عبر تاريخها، إلا أنها تحلّت في مواجهة تلك التطورات بحالة من الإنكار جعلتها تحمّل الجميع مسؤولية ما جرى لها بسببها، من دون أن تشير ولو من طرف خفيّ بإصبع الاتهام إلى مناهج التفكير أو التدابير التي حكمت سلوكها، سواء في مرحلة ما قبل يناير 2011 أو ما جرى خلال يناير وما تلاها من وصولها للحكم على نحو ما يعرفه الناس جميعًا.
ومقابل عدم إجراء الجماعة أي مراجعات فكرية، فإنها لجأت إلى القيام بتراجعات سياسية بهدف تجنُّب الضغوط عليها أو بهدف تحقيق مصلحة معينة في توقيت معيَّن، وبما يمكّنها من مواجهة أي دعوات لإجراء مراجعات فكرية. وفي هذا السياق، تمكن الإشارة إلى المعادلة التي حكمت علاقة الجماعة مع النظام السياسي في مصر منذ عام 1981 حتى نهاية التسعينيات من القرن الماضي، إذ حرصت الجماعة على تأييد النظام ومهادنته وعدم استفزازه، في ظلّ رغبتها في الحفاظ على بقائها وقناعتها التامة بقوة النظام وتمتّعه بقدر كبير من الشرعية في ظل صراعه المسلّح مع جماعات التطرف المسلحة آنذاك.
وكذلك الحال فيما أعلنته الجماعة مطلع عام 2015 من تغييرات وإجراءات، حيث أكد متخصصون أن هذه التغييرات جاءت لسدّ النقص الذي تعانيه الجماعة نتيجة غياب كثير من رموز الجماعة في السجون “لكنها مراجعات أو تغيُّرات لم تطَل أدبيات الجماعة وميراثها الفكري”.
وفي خاتمتها، أوضحت الدراسة أن جماعة الإخوان المسلمين لا تؤمن بفكرة المراجعات الفكرية، وتعتقد أنها وحدها تمثّل الإسلام الوسطي، ولا ترى أنها أخطأت أو أن هناك حاجة إلى إجراء مثل تلك المراجعات. وكما لا تؤمن الجماعة بفكرة المراجعات الفكرية فإنها تجاهلت أي دعوة تُوجه إليها لإجراء هذه المراجعات، حتى أنها رفضت كذلك تلك الدعوات التي أطلقها بعض أعضائها بين الحين والآخر، حيث كان مصير أصحاب هذه الدعوات إما الخروج من الجماعة طواعية أو أن تقوم الجماعة بإخراجهم منها، وبرغم ما يثار عن مراجعات بعض شباب الإخوان في السجون خصوصًا بعد عام 2013 فإن الجماعة لم تُعر مثل هذه المراجعات أي اهتمام، وتعاملت مع أصحابها بالتخلي عنهم أثناء فترة وجودهم في السجون.
ومقابل مواجهة ما كانت تتعرض له الجماعة من ضغوط، فإنها لجأت إلى ما يمكن تسميته بالتراجعات السياسية التي استهدفت من خلالها مواجهة تلك الضغوط، والمثال الأبرز في هذا الصدد هو ذلك الملف الذي أعلنته في مارس 2017 واستهدف مواكبة متغيرات خارجية أبرزها مجيئ إدارة ترامب لحُكم الولايات المتحدة التي كانت تسعى إلى تصنيف الجماعة منظمةً إرهابيةً.