تظل المعضلة الليبية تراوح مكانها بين أروقة السياسة الدولية ودهاليز الحسابات المحلية، إلا أن متغيرًا جديدًا بدأ يفرض نفسه على الساحة مؤخرًا؛ وهو تآكل الحجج التي طالما تذرعت بها الأطراف المختلفة لعرقلة المسار الديمقراطي، فهل انتهت حقًا حجة “نقص التمويل” التي كانت تُساق كشماعة لتأجيل الاستحقاقات الانتخابية؟
فك شفرة الميزانية
وعند النظر إلى الميزانيات الضخمة التي تم إنفاقها خلال السنوات الثلاث الأخيرة، يدرك المتابع أن الأزمة في ليبيا لم تكن يوما٦ أزمة موارد، بل أزمة تدبير وتوجيه.
لقد تجاوز الإنفاق العام أرقامًا قياسية، حيث ضخت المصارف المركزية مليارات الدينارات لتغطية بنود المرتبات والدعم والمشروعات التنموية “المعطلة أو المتعثرة”. ومن هنا، يرى الخبراء الاقتصاديون أن تكلفة إجراء الانتخابات الوطنية، والتي تقدر بكسر ضئيل من إجمالي الإنفاق السنوي، لا يمكن أن تشكل عائقًا تقنيًا.
إن “انتفاضة الصناديق” تتطلب دعمًا لوجستيًا ومفوضية قادرة على التحرك، وهو ما بات متاحًا من الناحية المالية في ظل استقرار عوائد النفط وتجاوز أسعاره لمستويات الأمان في الموازنة العامة.
ولطالما أكدت المفوضية الوطنية العليا للانتخابات أنها تمتلك الهياكل الإدارية والفنية اللازمة، لكنها كانت تشكو في فترات سابقة من تأخر تسييل الميزانيات المخصصة للعمليات التشغيلية.
اليوم، ومع التوافقات “الهشة” ولكن “الموجودة” حول ضرورة صرف مخصصات القطاعات الحيوية، لم يعد للمفوضية عذر مالي ظاهر.
كما أن إن الدعم الدولي التقني، جنبًا إلى جنب مع الموارد المحلية، وضع المفوضية في موقف المواجهة أمام الشعب؛ فالمعدات اللوجستية، من صناديق الاقتراع إلى أنظمة التحقق الرقمي، باتت جزءًا من الأصول القائمة، مما يجعل الحديث عن “عجز التمويل” ضربًا من الخيال السياسي الهادف للمماطلة.
الصراع على الشرعية وتوظيف المال السياسي
وترى مصادر، أن “نقص التمويل” كان “كلمة حق أريد بها باطل” في محطات سابقة. فالأطراف المهيمنة على المشهد تدرك أن التمويل هو عصب البقاء، وبالتالي كان يتم توجيهه لتعزيز التحالفات العسكرية أو كسب الولاءات القبلية والجهوية، بدلاً من استثماره في بناء قاعدة بيانات ناخبين صلبة أو تأمين مراكز الاقتراع.
ومع تزايد الضغوط الشعبية والمطالبات الدولية بضرورة توحيد الميزانية تحت رقابة شفافة، بدأت هذه الحجة تتلاشى. الانتفاضة الحقيقية هي التي تحدث الآن في وعي المواطن، الذي بات يفهم أن الأموال التي تُنفق على “المؤتمرات العقيمة” تكفي لإجراء عشرات الانتخابات المتتالية.
سيناريوهات المستقبل
وتُشير المعطيات الحالية إلى أن ليبيا تقف على مفترق طرق؛ فإما الذهاب نحو تسوية مالية شاملة تضمن تمويل الانتخابات كأولوية قصوى، أو الاستمرار في استنزاف الموارد في مسارات موازية لا تخدم الاستقرار، كما أن الاستحقاق الليبي لم يعد رهينة “الدولار” أو “الدينار”، بل رهينة “القرار”، إن انتفاضة الصناديق تعني بالضرورة انتهاء عصر الحجج الواهية، والبدء في مرحلة المحاسبة التاريخية لكل من حاول اختزال أزمة الوطن في حفنة من الأموال المفقودة عمدًا.

