تطل علينا ذكرى استقلال ليبيا هذا العام، والبلاد تقف عند مفترق طرق تاريخي، حيث يمتزج عبير الذكرى الوطنية بمرارة الواقع السياسي المعقد.
إرث الاستقلال.. من الدولة المؤسسة إلى الدولة المنقسمة
في الرابع والعشرين من ديسمبر عام 1951، أعلن الملك الراحل إدريس السنوسي استقلال ليبيا كدولة موحدة. كان ذلك الإنجاز ثمرة لنضال مرير خاضه الأجداد ضد الاستعمار الإيطالي/ لكن، وبمرور العقود، تحول هذا الإرث من ركيزة للاستقرار إلى “عبء تاريخي” يواجه تحديات الانهيار المؤسساتي.
اليوم، تعاني ليبيا من انقسام حكومي بين الشرق والغرب، وهو انقسام لا يهدد السيادة الوطنية فحسب، بل يطمس ملامح الهوية الليبية الجامعة.
وقالت مصارد: إن الصراع الحالي ليس مجرد خلاف على السلطة، بل هو صراع على شرعية “الدولة” التي فقدت الكثير من سيادتها لصالح أجندات دولية وإقليمية.
صراع الهوية والسيادة
وتعتبر السيادة الوطنية العمود الفقري لأي دولة مستقلة، ومع ذلك، يشهد الواقع الليبي تآكلاً مخيفاً في هذا المفهوم. التدخلات الخارجية، سواء العسكرية أو السياسية، حولت ليبيا إلى ساحة لتصفية الحسابات الدولية.
أزمة التوريث السياسي
ومن أخطر الظواهر التي تطل برأسها في المشهد الليبي هي أزمة التوريث السياسي، لم يعد التوريث مقتصراً على الأنظمة الملكية، بل بات يتجلى في محاولات القوى السياسية والعسكرية الحالية تدوير السلطة داخل دوائر ضيقة أو توريث النفوذ للأبناء والمقربين، هذه الأزمة أدت إلى انسداد الأفق أمام الكفاءات الشابة، وخلقت طبقة سياسية ترفض التنازل عن مكتسباتها، مما أدى إلى تأجيل الانتخابات الوطنية مرارًا وتكرارًا بحجج واهية.
التوريث السياسي هنا ليس مجرد انتقال للسلطة، بل هو استمرار لنفس العقلية الإقصائية التي ترفض التغيير وتعرقل بناء دولة القانون.
القوة المعطلة
ويمثل الشباب أكثر من 60% من المجتمع الليبي، وهم القوة القادرة على كسر حلقة الصراع. ومع ذلك، يجد الشاب الليبي نفسه محاصرًا بين مطرقة البطالة وسندان الهجرة غير الشرعية، أو الانخراط في التشكيلات المسلحة كخيار وحيد للبقاء.
الثروات المنهوبة
كما أن ليبيا تمتلك أكبر احتياطيات مؤكدة من النفط في أفريقيا، لكن هذا الرخاء لم ينعكس على البنية التحتية أو جودة الحياة.
الفساد المالي المستشري أدى إلى تهريب المليارات للخارج، بينما تعاني المدن الليبية من انقطاع الكهرباء وتهالك المستشفيات، وإذا استمر النهج الحالي، فإن الأجيال المقبلة ستستلم بلدًا خاويًا من الموارد الطبيعية، ومحملاً بمديونيات والتزامات دولية ضخمة.
كيف نستعيد روح استقلال 1951؟
إن الخروج من النفق المظلم يتطلب العودة إلى مبادئ الاستقلال الأولى، ولكن برؤية عصرية تناسب القرن الحادي والعشرين.
الطريق يبدأ بمصالحة وطنية شاملة تتجاوز لغة المنتصر والمهزوم وتضع مصلحة ليبيا فوق الجميع وإجراء انتخابات وطنية و تجديد الشرعية السياسية عبر صناديق الاقتراع، وليس عبر الصفقات الغرف المغلقة وإنهاء الوجود الأجنبي: توحيد المؤسسة العسكرية والأمنية لحماية الحدود والقرار الوطني وتمكين الشباب وإعطاء الفرصة للجيل الجديد لقيادة المرحلة الانتقالية بعيداً عن أيديولوجيات الماضي.
يذكر أنه في ذكرى استقلال ليبيا، يجب ألا نكتفي برفع الأعلام وإلقاء الخطابات الحماسية. إن الأمانة التي تركها الأجداد تقتضي منا أن نتساءل بصدق، ماذا أبقينا للأجيال المقبلة؟ الاستقلال الحقيقي ليس مجرد وثيقة وقعت في الخمسينيات، بل هو ممارسة يومية للسيادة، وبناء مستمر للهوية، وحماية حقيقية للثروات، حيث أن ليبيا تمتلك كل المقومات لتكون دولة رائدة، وما ينقصها فقط هو إرادة سياسية تغلب الوطن على الشخص، والمستقبل على الماضي.
إن طموح الشباب الليبي هو الضمانة الوحيدة لعدم ضياع السيادة، وعلى النخب الحالية أن تدرك أن زمن التوريث السياسي قد ولى، وأن المستقبل ملك لمن يبنيه اليوم بالعمل والعلم والمواطنة.

