بينما تنشغل الأنظار بالحرب الدائرة في غزة ومسارات التهدئة المعقدة، تمضي إسرائيل بهدوء محسوب في مسار موازي داخل الضفة الغربية، يحمل أبعادًا لا تقل خطورة عن المعارك المفتوحة.
التوسع الاستيطاني المتسارع خلال السنوات الأخيرة لم يعد مجرد سياسة إسكان أو إجراء إداري، بل بات مشروعًا لإعادة هندسة المكان والإنسان، في محاولة لفرض وقائع جديدة قد تعيد تعريف مستقبل الضفة سياسيًا وديموغرافيًا.
خريطة جديدة على الأرض
إقرار عشرات المستوطنات خلال فترة زمنية قصيرة يعكس تحولًا لافتًا في الرؤية الإسرائيلية تجاه الضفة الغربية، هذا التوسع لم يتركز في نطاق جغرافي واحد، بل توزع على مناطق استراتيجية تمتد من شمال الضفة إلى وسطها، وصولًا إلى محيط بيت لحم وجنوب الخليل وغور الأردن.
الامتداد يقطع أوصال الجغرافيا الفلسطينية، ويحول المدن والقرى إلى جزر معزولة، ما يعقد أي تصور مستقبلي لدولة فلسطينية متصلة وقابلة للحياة.
ولا يمكن فصل هذا المسار عن السياق السياسي الداخلي في إسرائيل، حيث تلعب التيارات اليمينية المتشددة دورًا متزايدًا في صياغة السياسات، معتبرة أن اللحظة الإقليمية الراهنة تمثل فرصة لفرض أمر واقع يصعب التراجع عنه لاحقًا.
بين القرار والتنفيذ
رغم ضخامة الأرقام، فإن الواقع الميداني يكشف فجوة بين الإعلان والتنفيذ، فالمستوطنات الجديدة تواجه تحديات أمنية واقتصادية حقيقية، تجعل قدرتها على استقطاب مستوطنين من خارج التيار العقائدي محدودة.
هذه المعطيات أدت إلى ما يشبه الهجرة العكسية من بعض البؤر الاستيطانية، حيث يفضل كثيرون العودة إلى داخل إسرائيل بحثًا عن الاستقرار والخدمات وفرص العمل.
هذا التناقض بين الطموح السياسي والقدرة العملية يطرح تساؤلات حول مدى قابلية مشروع إعادة رسم الخريطة للاستمرار على المدى الطويل، خاصة في ظل الضغوط الدولية المتواصلة.
العنف كأداة مرافقة
يتزامن التوسع الاستيطاني مع تصاعد لافت في أعمال العنف ضد الفلسطينيين، لا سيما في المناطق القريبة من المستوطنات الجديدة.
العنف لا يبدو عشوائيًا، بل يأتي في سياق ضغط ممنهج يهدف إلى تفريغ الأرض من سكانها الأصليين، عبر التضييق اليومي، وتدمير مصادر الرزق، وخلق بيئة طاردة للحياة.
وتبرز في هذا السياق عمليات تهجير قسري تطال تجمعات بدوية وقرى زراعية، إضافة إلى تقليص الوصول إلى الأراضي الزراعية وعرقلة المواسم الحيوية، ما يضرب البنية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الفلسطيني في العمق.
الرهان على الدبلوماسية
في مواجهة هذا المشهد، يبقى المسار الدبلوماسي العامل الأكثر تأثيرًا في كبح جماح التوسع الاستيطاني، فغياب الضم القانوني الرسمي يعكس استمرار حسابات إسرائيلية دقيقة تجاه الموقف الدولي، لا سيما الأميركي والأوروبي، اللذين ما زالا يتمسكان نظريًا بحل الدولتين.
غير أن فعالية هذا الرهان تبقى مرهونة بترجمة المواقف السياسية إلى إجراءات ملموسة، تتجاوز بيانات القلق والإدانة إلى أدوات ضغط حقيقية قادرة على تغيير السلوك على الأرض.
إعادة رسم خريطة الضفة الغربية ما تزال مشروعًا مفتوحًا على احتمالات متعددة، فبين توسع استيطاني غير مسبوق، وواقع ميداني مليء بالعوائق، وضغوط دولية متباينة، تقف الضفة عند مفترق طرق حاسم.

