عاد اسم الفاتيكان ليحتل موقعًا مركزيًا في النقاشات السياسية الإقليمية، عقب نداء بيروت الذي صدر عن عدد من القيادات الروحية والسياسية المسيحية في لبنان، داعين الكرسي الرسولي إلى لعب دور أكثر وضوحًا وحسمًا في ملف الأزمة اللبنانية المستعصية.
علاقة تاريخية بين الفاتيكان ولبنان
وقالت مصادر إنه منذ عقود، ينظر الفاتيكان إلى لبنان باعتباره أكثر من مجرد دولة ذات أغلبية مسيحية سابقة أو واحة للتنوع الطائفي. في رؤية الكرسي الرسولي، يمثّل لبنان نموذجًا لتعايش ديني يمكن البناء عليه في حوار الحضارات، ومن ثم ظلّ خط الدفاع الأول عن التوازنات المسيحية في الشرق. لذلك، لطالما احتلت بيروت موقعًا خاصًا في الأجندة الدبلوماسية للفاتيكان، خصوصًا مع تراجع الوجود المسيحي في العراق وسوريا وفلسطين.
لكنّ هذا الاهتمام التقليدي كان دائمًا يصطدم بحقيقة أخرى: قدرة الفاتيكان على التأثير السياسي المباشر محدودة، وتعتمد على شبكة علاقات دبلوماسية ودينية وأخلاقية أكثر منها على أدوات ضغط فعلية على اللاعبين الإقليميين، وهنا يظهر السؤال: هل ما زالت هذه الشبكة كافية للتأثير في الأزمة اللبنانية الحالية التي باتت محكومة بميزان قوى إقليمي معقد؟
نداء بيروت
وأكدت مصادر أن النداء الصادر من بيروت لم يكن مجرد بيان عابر، فقد حمل في طياته رسائل متعددة الاتجاهات، سواء إلى الفاتيكان أو إلى الفرقاء اللبنانيين أو حتى للقوى الدولية، وكانت الرسالة الأساسية تتمحور حول دعوة الفاتيكان إلى لعب دور أكثر حزمًا في تشكيل بيئة دولية تساعد على فك انسداد الاستحقاق الرئاسي، ووضع حد لحالة الشلل السياسي والاقتصادي التي تضرب البلاد منذ سنوات. لكن ما يميز نداء بيروت ليس في مضمونه فقط، بل في توقيته.
فالنداء جاء في لحظة تشهد فيها المنطقة تحولات كبرى، منها صعود أدوار دولية جديدة في ملفات الشرق الأوسط، ودخول أطراف إقليمية على خط الأزمة اللبنانية بفاعلية أكبر، وضعف تأثير المبادرات الفرنسية والعربية، وتفاقم الانهيار الاقتصادي اللبناني إلى حدود تهدد البنية الاجتماعية. كل هذه العناصر دفعت البعض للاعتقاد بأن الفاتيكان قد يجد نفسه أمام اختبار جديد: إما أن يتحرك ضمن رؤية سياسية محدثة، أو يكتفي بالمواقف الروحية التقليدية، ما يعني عمليًا تراجع دوره.
هل تتغير فعلاً خريطة الفاتيكان السياسية؟
لفهم أي تحول محتمل، يجب الإشارة إلى أن الفاتيكان لا يعمل بمنطق الدول الكبرى، بل بمنطق “الدبلوماسية الأخلاقية” التي توزّع أولوياتها وفق ثلاثة مسارات، منها: حماية الوجود المسيحي في الشرق الأوسط، ودعم الاستقرار السياسي والاجتماعي في الدول متعددة الطوائف، وتشجيع أي مبادرات للحوار وتخفيف التوترات الدولية.
لكن المتغيرات الأخيرة دفعت الفاتيكان، وفق عدد من التحليلات، إلى مراجعة أدواته وليس أهدافه. فالتقارير الدبلوماسية التي خرجت من روما في الأشهر الماضية أشارت إلى رغبة الكرسي الرسولي في بناء تحالفات دولية جديدة لضمان حماية المسيحيين، خصوصًا في ظل انشغال أوروبا بأزماتها الداخلية واهتمام متزايد بلبنان باعتباره القاعدة الأخيرة للحضور المسيحي السياسي المنظّم في الشرق، وقناعة بأن بقاء الوضع اللبناني على حاله سيؤدي إلى نزيف ديموغرافي يهدد التوازن التاريخي. لكن هل تكفي هذه الدوافع لرسم خريطة سياسية جديدة؟ الإجابة أكثر تعقيدًا.
هل يحمل نداء بيروت فرصة تُجبر روما على التحرك؟
وأشارت المصادر أنه رغم القيود، إلا أن هناك معطيات جديدة قد تجعل الفاتيكان يعيد ترتيب أولوياته تجاه لبنان، منها: الخوف من “الفراغ الإنساني” قبل الفراغ السياسي، والتحولات الديموغرافية المتسارعة، والحاجة إلى دور روحي في زمن الانهيار والفراغ الدبلوماسي الدولي.
السيناريوهات المحتملة لتحرك الفاتيكان
ووفق المؤشرات الحالية، هناك ثلاثة سيناريوهات يمكن أن تتجه إليها روما خلال الأشهر المقبلة: تعزيز الوساطة الهادئة، وطرح مبادرة سياسية–روحية مشتركة، والاكتفاء بالدور التاريخي التقليدي.
يذكر أنه يمكن القول إن الفاتيكان لم يغيّر خريطته السياسية بالكامل، لكنه يعيد معايرة بوصلته تجاه الشرق الأوسط، ولبنان تحديدًا. ونداء بيروت قد لا يكون نقطة تحول جذرية، لكنه بالتأكيد يشكّل جرس إنذار وصل صداه إلى روما، مفاده أن لبنان يقترب من مرحلة “اللاعودة”، وأن أي تأخير إضافي في التدخل قد يجعل الكرسي الرسولي يفقد أحد أهم ركائز حضوره في المنطقة.

