لم يكن سيد قطب في بداياته أكثر من ناقد أدبي مرهف الحس، يسعى لإصلاح المجتمع عبر الكلمة والجمال والفكر. لكن تحوله من الأديب الرومانسي إلى المنظر العقائدي المتشدد، ظل واحدًا من أكثر التحولات الفكرية إثارة للجدل في التاريخ العربي الحديث.
كتاب جديد للباحثة الكندية مونية آيت قبورة، الصادر عن جامعة مونتريال تحت عنوان: “سيد قطب.. مهندس الإسلاموية المتطرفة”، يعيد قراءة هذا التحول بعيون أكاديمية باردة، باحثًا عن جذور الأيديولوجيا التي غذت جماعات العنف في العقود التالية.
تؤكد الباحثة، أن قطب لم يكن نتاج السجن وحده، بل نتاج مسار طويل من الانغلاق الفكري، بدأ ببطء منذ صدمته بالحداثة الغربية، لينتهي إلى صياغة منظومة فكرية مغلقة صارت لاحقًا المرجعية الفكرية للقاعدة وداعش وسائر التنظيمات الجهادية الحديثة.
الهوية المغلقة وبداية الانقسام
ويرى الكتاب، أن أولى بوادر التطرّف لدى سيد قطب ظهرت في تحوله من مفهوم “الأمة الثقافية” إلى “الفرقة الناجية”، فقد قسّم العالم إلى معسكرين: معسكر الإيمان ومعسكر الجاهلية.
هذا الانقسام، كما تشير الدراسة، كان لحظة الولادة الحقيقية لفكر الإقصاء الذي تبنته الجماعات المتشددة لاحقًا.
بهذا التصور، لم يعد الآخر المختلف في نظر قطب خصمًا فكريًا بل عدوًا وجوديًا، الأمر الذي فتح الباب أمام تبرير العنف باسم الدفاع عن العقيدة، ووضع الأساس النظري لفكرة “التكفير والولاء والبراء”.
الاستشراق المعكوس.. رفض الغرب وإعادة إنتاجه
تكشف الدراسة، أن رفض قطب للغرب لم يكن موقفًا سياسيًا بقدر ما كان صدمة حضارية تحولت إلى نقمة فكرية. فبعد أن كان معجبًا بالأدب الغربي وأساليبه، عاد من بعثته في الولايات المتحدة محملاً برؤية سوداوية عن العالم الحديث، متبنيًا ما تصفه الباحثة بـ”الاستشراق المعكوس” — إذ أعاد إنتاج نفس الصور النمطية التي رسمها المستشرقون عن الشرق، ولكن هذه المرة ضد الغرب نفسه وضد الحداثة عموماً.
بهذا المعنى، لم يواجه قطب الغرب بنقد معرفي، بل بنظام فكري مغلق يرى في الحضارة الحديثة خطرًا على نقاء الإيمان، وهو ما سيصبح لاحقًا الركيزة الأولى في خطاب الجماعات المتطرفة التي تصف العالم كله بـ”الجاهلي”.
العاطفة فوق العقل.. من الإصلاح إلى الإلهام المقدّس
يرى الكتاب، أن كتابات قطب، خصوصًا “في ظلال القرآن”، اعتمدت أسلوبًا عاطفيًا يجعل من الإحساس بالحقيقة بديلاً عن البرهان العقلي. فالفكر، في نظره، لا يناقش بل يستشعر.
وهنا، بحسب الباحثة، تحول الدين إلى تجربة وجدانية مغلقة، تسهل معها عملية تلقين الأتباع دون حوار أو تفكير نقدي.
وهذا النهج العاطفي مهد لتأسيس علاقة جديدة بين النص والتابع، علاقة السمع والطاعة بدلاً من الفهم والاجتهاد، ما فتح الطريق أمام الفكر القطبي ليصبح عقيدة حركية بدلاً من كونه رؤية إصلاحية.
العقل المغلق وبنية العنف
وتبرز الدراسة، أن قطب بنى فكره على ما تسميه “العقلانية الشكلية”، أي عقل يخضع الواقع للنص دون تفسير أو تأويل، في هذا الإطار، تصبح القوة أداة لتصحيح التاريخ، والعنف وسيلة لتطهير المجتمع من الجاهلية. من هنا، ولدت فكرة “الطليعة المؤمنة” التي تتولى مهمة إقامة الحكم الإلهي بالقوة، وهو المفهوم الذي تبنّته لاحقاً التنظيمات الجهادية المسلحة.
وترى الباحثة، أن خطورة فكر سيد قطب لا تكمن في نصوصه وحدها، بل في المنهج المغلق الذي ألغى التعددية واحتكر الحقيقة.
لقد تحوّل قطب، من دون أن يدرك، من ناقد أدبي يبحث عن الجمال في النص، إلى مهندس أيديولوجي صاغ خطابًا يجعل من الدين مشروعًا للهيمنة.

