تعيش منطقة الشرق الأوسط لحظةً فاصلةً في تاريخها الحديث، حيث تترنح الميليشيات التي شكّلت لعقود مراكز قوى موازية للدول، وتتهاوى منظومات النفوذ التي غذّت الحروب الأهلية والصراعات الطائفية.
ومع انكشاف عجز تلك الجماعات عن إدارة الأرض أو كسب الشرعية، يبدو أن صفحةً جديدة تُكتب في موازين القوة الإقليمية، تتجاوز مرحلة “المقاومة بالوكالة” إلى عصر “الدولة بالمسؤولية”.
فقدت الميليشيات التي كانت أدوات النفوذ الإيراني واللاعب الخفي في أزمات سوريا والعراق ولبنان واليمن كثيراً من حضورها في الميدان، بعد أن استنزفتها الحروب وأفقدتها الغطاء الشعبي.
ومع انحسار دورها، بدأت القوى الإقليمية الكبرى، وفي مقدمتها السعودية ومصر والإمارات، في بلورة مشروعٍ جديدٍ يقوم على استعادة مفهوم الدولة الوطنية، وتعزيز السيادة، وفتح مسارات تنموية واقتصادية بديلة عن منطق السلاح والعقيدة.
من منطق الميليشيا إلى منطق الدولة
ولأكثر من عقدين، سيطر على المنطقة خطاب قائم على “التوازن بالقوة غير النظامية”، فحزب الله في لبنان، والحوثيون في اليمن، والميليشيات الولائية في العراق، وحماس في غزة، شكّلوا حلقات مشروعٍ واحدٍ ربط أمن المنطقة بمصالح إيران.
ولكن بعد حروب غزة ولبنان الأخيرة، وسقوط آلاف القتلى وتدمير بنى تحتية كاملة، فقدت تلك الجماعات مبرّرها الأخلاقي والسياسي.
اليوم، تتجه الأنظار إلى استعادة سلطة المؤسسات الرسمية، وإعادة بناء مفهوم الأمن المشترك، فالدول العربية بدأت تتعامل مع ظاهرة الميليشيات باعتبارها خطراً استراتيجياً لا يقلّ عن الإرهاب، ما جعل فكرة “احتكار الدولة للسلاح” عنواناً للمرحلة المقبلة.
إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية
التحولات لا تقف عند حدود الأمن، بل تمتد إلى إعادة تموضع القوى الكبرى، فالمشهد الجديد يتجه نحو تقاربٍ عربيٍّ أوسع، قائمٍ على البراغماتية السياسية لا على الشعارات العقائدية.
وقد أدّى ذلك إلى انحسار تأثير “محور الممانعة” الذي تشكّل حول طهران، مقابل صعود محور الاعتدال الذي يسعى لترسيخ الاستقرار والسلام الإقليمي، حتى في ظل استمرار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
ومع ضعف أذرع إيران في المنطقة وتراجع نفوذها الاقتصادي تحت وطأة العقوبات، باتت دول الإقليم تعيد صياغة أولوياتها على أساس التنمية والاستثمار والتكامل الإقليمي، لا الحروب بالوكالة أو سباق النفوذ العسكري.
الاقتصاد بديلاً عن الأيديولوجيا
في ظل المتغيرات المتسارعة، يبرز الاقتصاد كأداة القوة الجديدة في المنطقة، فمشروعات الربط الكهربائي والممرات التجارية من الخليج إلى المتوسط، وخطط الاستثمار المشتركة في الطاقة والاتصالات والبنية التحتية، تؤسّس لعصرٍ مختلفٍ تماماً عن مرحلة الصراع الأيديولوجي.
نظام جديد في طور التكوين
يقف الشرق الأوسط الآن على أعتاب نظامٍ إقليميٍّ جديد، قوامه تراجع أدوار الميليشيات وتقدّم الدول ذات الرؤية التنموية والقدرة على التفاوض المتوازن مع القوى العالمية.
ومع انكفاء المحاور القديمة، تبرز خريطة مصالح جديدة تتقاطع فيها مشاريع الأمن والطاقة والاقتصاد، لتشكّل واقعاً مغايراً لما عرفته المنطقة منذ مطلع الألفية.