بلغ الجوع وسوء التغذية في قطاع غزة مستويات غير مسبوقة، في ظل استمرار الحصار الإسرائيلي، وتراجع تدفق المساعدات الإنسانية إلى الحد الأدنى، وأكدت الأمم المتحدة أن عشرات الآلاف من الأطفال والنساء في غزة بحاجة ماسة إلى تدخل علاجي عاجل، بينما تتفاقم معاناة السكان نتيجة القيود الإسرائيلية الصارمة على دخول المواد الغذائية والإغاثية.
وفيات بين الرضّع بسبب الجوع
وأعلن جهاز الدفاع المدني في غزة عن ارتفاع مقلق في حالات وفاة الأطفال الرضّع نتيجة الجوع وسوء التغذية، موضحًا أن الأسبوع الماضي شهد وفاة ثلاثة أطفال على الأقل لأسباب غير متعلقة بالقصف، بل بسبب “نقص الغذاء، انعدام الحليب، وغياب الرعاية الصحية الأساسية”، بحسب ما صرح به المتحدث باسم الجهاز محمود بصل لوكالة الصحافة الفرنسية.
وفي مشهد مؤلم داخل إحدى مدارس وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين (أونروا) في مخيم النصيرات، التي تحولت إلى مركز للنزوح، تجمع الأطفال بانتظار وجبة طعام، وهم يقرعون الأواني الفارغة، وملامح الجوع الشديد بادية على وجوههم.
أوامر إسرائيلية تقوض جهود الإغاثة
وأفاد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، أن الأمر العسكري الإسرائيلي الذي طالب سكان ونازحي دير البلح بالنزوح جنوبًا، شكّل “ضربة قاصمة” لما تبقى من جهود إنسانية في القطاع.
واعتبر المكتب، أن هذا الإجراء يهدد “شريان الحياة الهش أصلاً” الذي يُبقي السكان على قيد الحياة في مختلف مناطق غزة.
أسعار خيالية ونقص حاد في المواد الغذائية
فيما يعاني أكثر من مليوني فلسطيني من نقص حاد في المواد الغذائية، مع تضاؤل الإمدادات بشكل كبير وارتفاع الأسعار بشكل جنوني.
وأوضح برنامج الأغذية العالمي، أن سعر كيس الدقيق ارتفع إلى ما يعادل 3000 ضعف ما كان عليه قبل اندلاع الحرب في أكتوبر 2023.
وقال كارل سكاو، مدير البرنامج، عقب زيارته لغزة مطلع يوليو الجاري: إن الوضع “هو الأسوأ” الذي شاهده في حياته، مشيرًا إلى لقائه بأب فقد 25 كغ من وزنه خلال شهرين فقط، وأضاف: “الناس يتضورون جوعًا، بينما الطعام موجود خلف الحدود على بعد أمتار”.
النساء والأطفال يدفعون الثمن
ومن ناحيتها، أشارت منظمة “أطباء بلا حدود”، إلى تسجيل أعلى معدلات سوء تغذية تم توثيقها على الإطلاق في غزة، لا سيما بين الأطفال والنساء الحوامل، ووفقًا للطبيبة جوان بيري، فإن “سوء التغذية وانعدام مياه الشرب النظيفة وسوء الصرف الصحي تسبب في ولادات مبكرة، فيما تكتظ وحدات العناية المركزة بحديثي الولادة، حيث يضطر أربعة إلى خمسة رضع إلى مشاركة حاضنة واحدة”.
وأضافت المنظمة، أن نقص البروتين يؤثر على تعافي الجرحى، ويُطيل أمد الإصابة، إذ تبقى العدوى نشطة لفترات أطول في أجساد المنهكين جوعًا.
مقتل العشرات أثناء انتظار المساعدات
وأعلن الدفاع المدني في غزة مقتل 93 شخصًا على الأقل، معظمهم في شمال القطاع، جراء إطلاق القوات الإسرائيلية النار على حشود كانت تنتظر استلام مساعدات غذائية، وأكد برنامج الأغذية العالمي أن قافلة تابعة له مؤلفة من 25 شاحنة واجهت “جماهير جائعة” تعرضت لإطلاق نار بعد دخولها القطاع عبر المعابر الإسرائيلية.
ووصف البرنامج ما حدث بأنه “عنف غير مقبول على الإطلاق”، داعياً إلى حماية المدنيين والعاملين في المجال الإنساني.
من جهته، قلل الجيش الإسرائيلي من حجم الخسائر، قائلاً: إن قواته “أطلقت نيراناً تحذيرية لردع تهديد مباشر”.
وبات إطلاق النار على المدنيين المنتظرين للمساعدات مشهدًا يوميًا في غزة، وخصوصًا في المناطق القريبة من نقاط توزيع المساعدات التي تديرها “مؤسسة غزة الإنسانية”، وهي جهة مدعومة من إسرائيل والولايات المتحدة، وقد وثّقت الأمم المتحدة مقتل نحو 800 مدني أثناء انتظارهم المساعدات منذ أواخر مايو الماضي.
تشكيك في مصداقية “مؤسسة غزة الإنسانية”
وفي هذا السياق، رفضت الأمم المتحدة وعدة منظمات غير حكومية التعاون مع “مؤسسة غزة الإنسانية”، بسبب مخاوف تتعلق بحيادها ومصادر تمويلها، وقد بدأت المؤسسة نشاطها في أواخر مايو بعد شهرين من الحصار الكامل، رغم التحذيرات المتكررة من خطر المجاعة.
وحملت حركة “حماس” إسرائيل والإدارة الأميركية “المسؤولية الكاملة عن هذه الجرائم”، داعية إلى فتح تحقيق دولي في ما وصفته بـ”الآلية الأميركية الإسرائيلية المشبوهة لتوزيع المساعدات، التي تحولت إلى وسيلة ممنهجة لقتل المدنيين”.
البابا يدعو إلى إنهاء “همجية الحرب”
وخلال صلاة التبشير الملائكي الأحد، دعا البابا لاوون الرابع عشر إلى وقف فوري لـ”همجية الحرب” في غزة، مطالبًا بحل سلمي يضمن حماية المدنيين، واحترام القانون الدولي الإنساني، ومنع التهجير القسري والعقوبات الجماعية.
وتأتي دعوة البابا بعد قصف إسرائيلي أصاب الكنيسة الكاثوليكية الوحيدة في القطاع الأسبوع الماضي، ما أدى إلى مقتل ثلاثة أشخاص.
وقد أعربت إسرائيل عن أسفها لما حدث، واصفة الضربة بأنها “غير مقصودة”، وأقام بطريرك اللاتين في القدس، الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا، قداسًا في الكنيسة الأحد بعد زيارته القطاع الجمعة.
تقييد تحركات مسؤولي الأمم المتحدة
وفي خطوة أثارت الجدل، أعلن وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر، أنه أصدر تعليمات بعدم تمديد تأشيرة مدير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) جوناثان ويتال، المقيم في القدس، والذي كثيرًا ما ندد بالتدهور الإنساني في غزة، وصرّح في أبريل بأن “سكان غزة يموتون ببطء”، واتهم ساعر ويتال بتقديم “تقارير مضللة وتحريضية” ضد إسرائيل، وخرق قواعد الحياد الأممية.
ومنذ اندلاع الحرب، فرضت إسرائيل قيودًا متزايدة على دخول مسؤولي الأمم المتحدة، بما في ذلك موظفو أوتشا، ومفوضية حقوق الإنسان، ووكالة الأونروا، في محاولة واضحة للحد من الرقابة الأممية على الوضع الإنساني في القطاع.