في تطور لافت ضمن التصعيد المستمر بين إيران وإسرائيل، كشفت تقارير استخباراتية أميركية، أن طهران أخلت عدة مواقع نووية حساسة قبيل الضربة الجوية الأميركية الأخيرة، وذلك الخطوة، التي بدت للوهلة الأولى وكأنها إجراء احترازي لتجنب الكارثة، سرعان ما أثارت الشكوك داخل أوساط المراقبين: هل تعني حقًا أن إيران كانت تتوقع الهجوم؟ أم أنها خدعة تكتيكية مدروسة؟
فيما أن مصادر في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) لم تخفِ دهشتها من دقة التوقيت، ما أعطى انطباعًا بأن إيران ربما كانت على علم مسبق بالتوقيت التقريبي للهجوم، وهو ما يطرح سؤالًا مقلقًا: هل نجحت طهران في اختراق قناة ما من القنوات الاستخباراتية الغربية؟
إخلاء المنشآت النووية.. تكتيك خداعي أم حماية حقيقية؟
ورجحت بعض التحليلات، أن إيران تعمّدت تسريب معلومات عن إخلاء مواقعها النووية لتراقب عن كثب كيف تتفاعل واشنطن مع هذه الخطوة، وقد تكون هذه مناورة تهدف لاختبار مستوى دقة الأقمار الصناعية الأميركية وطبيعة ردودها التكتيكية، في خطوة تشبه لعبة القط والفأر بين أجهزة الاستخبارات.
ومن جهة أخرى، يرى مراقبون، أن إخلاء المواقع قد يكون خطوة استباقية لتقليل الخسائر البشرية والمادية، لكنها قد تُخفي وراءها خطة أعقد: استخدام هذه المنشآت لاحقًا كقاعدة لانطلاق هجوم خاطف أو لتخزين أسلحة غير تقليدية بعيدًا عن أعين الأقمار الصناعية.
ومن زاوية الدعاية، مثلت خطوة الإخلاء وسيلة لإيهام الرأي العام الدولي والإيراني بأن طهران ملتزمة بالقانون الدولي، بينما تُحاكي دور المتحضر والحكيم، فضلاً عن أن إعلانها أن المنشآت “مسالمة” و”خالِ من المواد النووية” عزّز رواية المرشد الأعلى التي تصوّر إيران كضحية مؤسساتية وليست معتدية.
الرسائل الإيرانية المشفرة.. طهران تتكلم بلغة الغموض
وتتجنّب إيران التصريحات المباشرة حول دوافع إخلاء المواقع، مكتفية بإشارات مبهمة على لسان مسؤولين كبار بأن “الرد الإيراني سيأتي في الوقت والمكان المناسبين”.
وهذا النمط من الغموض يفتح الباب أمام احتمالات متعددة، منها التحضير لرد شامل أو نوعي، ربما من خلال أذرع إقليمية مثل: “حزب الله” أو “أنصار الله” (الحوثيين)، أو اللعب بورقة الضغط النووي من جديد، عبر خطوات فنية قد تعيد إيران إلى مسافة أسابيع من القدرة على إنتاج سلاح نووي، كما سبق وحدث في مراحل التوتر السابقة.
ويحتمل أيضًا أن تكون لتشتيت الخصم من خلال تحريك عدة جبهات بالتزامن، كما ظهر في النشاط المتصاعد على الحدود الشمالية لإسرائيل، واستهداف قواعد أميركية في العراق وسوريا.
الموقف الأميركي.. ضربة محسوبة أم بداية مرحلة جديدة؟
وجاءت الضربة الأميركية التي استهدفت مواقع إيرانية في وقت متأخر من الأسبوع الماضي عقب تقارير عن نشاطات نووية “مقلقة”، وفق تعبير البيت الأبيض، لكن توقيت الضربة وتزامنه مع إخلاء المنشآت أثار أسئلة داخل الكونغرس عن “فعالية الردع الأميركي” وقدرة واشنطن على مفاجأة خصم مثل إيران، الذي يبدو أنه بات يتوقع كل تحرك تقريبًا.
ويرى البعض داخل المؤسسة العسكرية الأميركية، أن إيران “أعادت ضبط معادلة الردع”، من خلال إشارات تظهر استعدادها للتصعيد لكن من موقع المتحكّم، وليس الطرف المهدد.
وبالنسبة لإسرائيل، فإن إخلاء المواقع النووية الإيرانية لا يقلقها من زاوية السلامة فقط، بل من منطلق استخباراتي بحت، وفي ظل تقارير أميركية عن تناقص مخزون صواريخ “آرو” الدفاعية لدى إسرائيل، فإن تل أبيب باتت تشعر بأنها عارية جزئيًا أمام أي تصعيد كبير من إيران.
إلى أين تتجه المواجهة؟
وفي ضوء المستجدات، يمكن رسم 3 سيناريوهات محتملة للمرحلة المقبلة، أولهم خطة خداع طويلة المدى، حيث تسعى إيران لتضليل الخصم عبر خطوات ظاهرها دفاعي وباطنها هجومي، ما يمنحها الأفضلية في التوقيت والمكان.
والسيناريو الثاني هو مرحلة الرد غير المباشر، حيث قد تعتمد طهران على أدواتها في المنطقة (من حزب الله إلى الميليشيات في العراق واليمن) لتوجيه ضربات تُرهق إسرائيل وأميركا دون الدخول في مواجهة مباشرة.
والثالث تصعيد نووي محسوب، حيث تستخدم إيران هذا التوتر كورقة ضغط في المفاوضات النووية المجمدة، عبر إظهار قدرتها على إعادة تشغيل منشآت وتخصيب اليورانيوم بسرعة قصوى.
لذا فإيران لا تتصرف تحت الضغط فقط.. بل ترسم مسرح العمليات وفقًا لحسابات استخباراتية مدروسة، إخلاء المنشآت النووية لم يكن على الأرجح مجرد إجراء وقائي، بل رسالة مشفّرة تقول: “نحن نعلم أنكم تراقبون.. لكننا نقرر متى وأين نرد”.
وفي ظل صراع تتقاطع فيه التكنولوجيا بالاستخبارات، يبدو أن طهران بدأت بالفعل تنفيذ خطة الخداع النووي، وهي لعبة قد تغيّر موازين الشرق الأوسط في قادم الأيام.