لعقود، شكّلت العقوبات الاقتصادية أحد أبرز أدوات السياسة الخارجية الغربية، لا سيما تجاه الدول المصنّفة كمصدر تهديد للأمن الدولي أو الإقليمي، لكن في عام 2025، ومع تغييرات دراماتيكية في موازين القوى، من سقوط نظام بشار الأسد في سوريا إلى تعاظم الشراكات الإيرانية–الروسية، أصبح من الضروري طرح السؤال مجددًا: هل ما تزال العقوبات أداة فعالة لتغيير السلوك السياسي، أم أنها تحوّلت إلى سيفٍ ذي حدّين يرهق المجتمعات ويعزز استبداد الأنظمة؟، خاصة لتأثير العقوبات الاقتصادية على أربع دول محورية: سوريا، إيران، روسيا، ولبنان، بصورة واضحة.
سوريا ما بعد الأسد.. العقوبات بين التفكك والتموضع السياسي
مثّل سقوط نظام بشار الأسد أواخر 2024 لحظة فارقة في المشهد الإقليمي، فمع صعود حكومة جديدة يقودها تحالف قوى معارضة داخلية وشخصيات تكنوقراطية بدعم دولي، بادرت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى تخفيف بعض العقوبات المرتبطة بقانون “قيصر”، خاصة تلك المرتبطة بقطاعات الطاقة والطب والتعليم.
وأكدت الباحثة في الشأن السوري هيبة زيدان في حديث لـ”هيومن رايتس ووتش”، أن “العقوبات شكّلت أداة ضغط مهمة، لكنها أثّرت بشدة على المدنيين، وحرمت المستشفيات من المعدات، والمدارس من الدعم اللوجستي الأساسي”.
وكان أحد نتائج هذا التحول إعادة فتح المعابر التجارية مع الأردن وتركيا، وتوقيع اتفاق استثماري مع قطر بقيمة 3.2 مليار دولار لإعادة تأهيل البنية التحتية في حلب ودمشق، وكما ساهم التنسيق مع برنامج الغذاء العالمي في إيصال المساعدات إلى الشمال الشرقي السوري للمرة الأولى منذ عامين.
ورغم هذه الإيجابيات، تحذّر تقارير البنك الدولي من أن الاقتصاد السوري بحاجة لعقد من النمو المستدام لتعويض خسائره، بينما يبقى “رفع العقوبات الكامل” مشروطًا بإصلاحات سياسية وهيكلية أكثر شمولاً.
إيران.. الالتفاف على العقوبات وتحالفات جديدة لتعزيز النفوذ الإقليمي
بينما طورت إيران، التي تخضع لعقوبات أميركية وأوروبية منذ انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي في 2018، خلال السنوات الماضية منظومة بديلة للاقتصاد التقليدي، وهذه المنظومة تعتمد على “الاقتصاد الرمادي”، والتبادلات الثنائية مع الصين وروسيا، واستخدام العملات المشفرة للالتفاف على النظام المالي الدولي.
وفي عام 2025، أظهرت تقارير مركز الدراسات الدولية في طهران، أن صادرات النفط الإيرانية تجاوزت 1.5 مليون برميل يوميًا، بفضل التفاهمات السرية مع بكين، وصفقات الشراء غير المعلنة عبر الإمارات وسوريا.
ورغم ما يبدو من مرونة، إلا أن الداخل الإيراني يدفع الثمن: ارتفاع التضخم، انخفاض القوة الشرائية، واحتجاجات متفرقة في أصفهان وطهران على تراجع مستوى الخدمات العامة، حيث أشار اقتصاديون، أن “العقوبات لم تسقط النظام، لكنها عمّقت الهوة بين الحرس الثوري والشعب، وزادت الاعتماد على الحلول غير الشفافة”.
روسيا.. بين العقوبات والتكيّف مع اقتصاد الحرب
ومنذ غزوها لأوكرانيا عام 2022، تواجه روسيا حزمًا متصاعدة من العقوبات الغربية، استهدفت القطاع المصرفي، وصادرات الطاقة، والتكنولوجيا، لكن موسكو لم تنهَر، بل أعادت تشكيل اقتصادها بالاعتماد على الشراكة الاستراتيجية مع الصين والهند، واستغلال احتياطي الذهب والعملات الأجنبية.
وأكدت تقارير صندوق النقد الدولي لعام 2025، أن روسيا سجّلت نموًا نسبته 2.1% في الربع الأول من العام، فيما ساعدت الطائرات المسيّرة الإيرانية في تعزيز قدرتها العسكرية بموارد منخفضة التكلفة.
ويبدو أن العقوبات دفعت الكرملين نحو “اقتصاد الحرب” الذي بات جزءًا من البنية الاقتصادية، حيث تزايدت استثمارات الدفاع والصناعات الثقيلة، مقابل تراجع الإنفاق الاجتماعي، ما يزيد التوترات الداخلية ولو بشكل غير ظاهر.
لبنان.. بين العقوبات السورية وتداعيات الانهيار المجاور
رغم أن لبنان لم يكن هدفًا مباشرًا للعقوبات، لكنه تأثر بشدة من العقوبات الغربية المفروضة على سوريا، والتي عطّلت شريانه البري الحيوي عبر معبر المصنع. ومع رفع جزئي للعقوبات عن دمشق، يأمل اللبنانيون في انتعاش التجارة والاستيراد.
ومع ذلك، تبقى المخاوف قائمة من أن يتحوّل لبنان إلى “منطقة تصريف غير شرعية” للبضائع والعقود الرمادية القادمة من سوريا وإيران، في ظل غياب الضوابط والرقابة الجمركية الصارمة، كما أن القطاع المصرفي اللبناني – الخاضع بدوره لضغوط دولية بعد أزمة 2019 – ما يزال يعاني من عزلة إقليمية وتراج…