في وقت يشهد فيه الحضور الأمريكي في أفريقيا انكماشًا ملحوظًا على المستويين الدبلوماسي والاقتصادي، تتقدم الصين بثبات نحو تعميق علاقاتها مع دول القارة، لتصبح شريكًا محوريًا يتغلغل في البنية التحتية والقطاعات الحيوية، وفق تقرير نشرته صحيفة لو فيغارو الفرنسية.
الغابون: من البنية التحتية إلى الشراكة متعددة الأوجه
وتُعد الغابون أحد أبرز الأمثلة على التمدد الصيني في أفريقيا، حيث تولّت بكين بناء وتجديد مجلس الشيوخ في العاصمة ليبرفيل، منذ اكتماله عام 2005، لتصبح لاحقًا شريكًا تجاريًا أول للدولة.
ولم تقتصر مساهمات الصين على الإنشاءات فقط، بل امتدت لتشمل قطاعات حيوية مثل النفط، والخشب، والمنغنيز، ما يعكس استراتيجية طويلة الأمد لربط اقتصاد الدولة بالبنية التحتية الصينية.
القوة الناعمة الصينية: الإعلام والتأثير الاجتماعي
ويمثل الشاب الغابوني برادي جوردان، البالغ من العمر 29 عامًا، صورة واضحة لاستراتيجية “القوة الناعمة” الصينية، إذ عاد من زيارة نظمتها بكين عام 2023 لقرابة 50 مؤثرًا أفريقيًا، متحولًا إلى مروج متحمس للنموذج الصيني.
ويقدم برادي محتوى رقميًا وورش عمل تستعرض الفرص التي تتيحها الصين في مجالي التعليم والاقتصاد، متجاهلاً الانتقادات الغربية بشأن قضايا الحريات.
كما شارك وفد من الصحفيين الغابونيين في زيارات مماثلة إلى مؤسسات إعلامية صينية، ما يعكس سعي بكين إلى كسب العقول والرأي العام المحلي في أفريقيا عبر نموذجها الإعلامي.
تراجع النفوذ الأمريكي: فراغ يملؤه التنين الآسيوي
في المقابل، يعكس تراجع الحضور الأمريكي، الذي تجلى في إغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) وتقليص التمثيل الدبلوماسي، إفساح المجال أمام التمدد الصيني.
ويرى برادي أن بلاده لم تعد تملك خيارًا سوى الاتجاه شرقًا، خصوصًا بعد توقف الدعم الأمريكي لمنظمة شقيقه المتخصصة في تدريب الشباب والنساء في مجال التكنولوجيا.
التعليم والثقافة: بوابات جديدة نحو الشراكة
ولا تقتصر الشراكة الصينية- الأفريقية على الاقتصاد، بل تمتد إلى التعليم والثقافة. أحد النماذج البارزة هو خيستيون مامفومبي، البالغ من العمر 25 عامًا، الذي حصل على منحة للدراسة العليا في إدارة الأعمال قرب بكين، بعد رفض قبوله في الجامعات الفرنسية.
ويرى مامفومبي أن الصينيين يتعاملون بندّية، على عكس “النظرة الأبوية” التي يتبناها الأوروبيون، حسب وصفه.
خطاب المساواة والمصالح الدولية
فيما تعتمد الصين في خطابها السياسي على مفردات “العدالة والمساواة”، حيث أكد السفير الصيني في الغابون مؤخرًا أن على “الجنوب العالمي أن يتكاتف للدفاع عن مصالحه”، في انتقاد ضمني للسياسات الأمريكية، مثل فرض الرسوم الجمركية التي يرى الصينيون أنها تضر بالدول النامية.
كما تسعى بكين للحصول على دعم سياسي أفريقي في المحافل الدولية مثل الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية، مستفيدة من توسيع رقعة نفوذها.
مخاوف من الطموحات العسكرية الصينية
ورغم نفي الرئيس الغابوني بونغو نغيما مؤخرًا نية إنشاء قاعدة عسكرية صينية في مدينة بورت جنتيل، بعد مفاوضات مكثفة، تتزايد المخاوف الغربية من تنامي الطموحات الصينية في المجالات الأمنية، لا سيما في منطقة خليج غينيا الغنية بالموارد والممرات البحرية الاستراتيجية.
هل تتحول أفريقيا إلى ساحة صراع نفوذ جديدة؟
ردًا على ذلك، يرى مراقبون أن أفريقيا أصبحت تدريجيًا ساحة لإعادة رسم التحالفات الدولية، حيث يعكس التمدد الصيني في دول مثل الغابون تحولًا في ميزان القوى العالمية.
وبينما تنسحب واشنطن، تملأ بكين الفراغ من خلال استراتيجيات ذكية تجمع بين الاستثمار والبروباغندا، ما يضع الدول الأفريقية أمام تحدي الحفاظ على سيادتها واستقلال قرارها وسط هذا الصراع الناعم.