في مشهد يعكس تناقضات السياسة الدولية، تلوح في الأفق ملامح صفقة نووية جديدة بين واشنطن وطهران، قد تعيد رسم خريطة التوازنات في الشرق الأوسط، لكن بأثمان قد تدفعها عواصم عربية أنهكتها الحروب والنفوذ الإقليمي المتشابك.
ورغم التاريخ المضطرب للعلاقات بين البلدين، تُظهر المؤشرات أن الإدارة الأميركية بقيادة الرئيس دونالد ترامب، الذي انسحب من الاتفاق النووي لعام 2015، تدرس العودة إليه أو إلى نسخة معدلة منه بشروط أقل تشددًا مما كان متوقعًا.
المفارقة أن هذه العودة المحتملة لا تأتي من منطلق الثقة، بل من براغماتية سياسية تفرضها الحاجة لتجنب حرب إقليمية شاملة وتوفير استقرار نسبي قبيل استحقاقات داخلية أميركية حساسة.
ووفق ما أوردته صحيفة “بوليتيكو”، فإن نقاشًا محتدمًا يدور في أروقة البيت الأبيض بين تيارين متضادين، الأول يقوده وزير الخارجية ماركو روبيو ومستشار الأمن القومي مايك والتز، ويدفع نحو مواجهة مباشرة مع طهران، معتبرًا أن الدبلوماسية لم تعد مجدية، بينما يروج التيار الآخر، بقيادة نائب الرئيس جي دي فانس ووزير الدفاع بيت هيغسيث، لفكرة تسوية سياسية محدودة تضمن مصالح واشنطن دون إشعال المنطقة.
إيران.. التفاوض على قاعدة التمكين
من جهتها، تدخل إيران هذه الجولة من المحادثات بنبرة أكثر ثقة وتماسكًا، في ظل تحولات إقليمية تعزز من موقعها التفاوضي.
لا تنظر طهران إلى الاتفاق النووي كمجرد تسوية تقنية، بل كجزء من رؤية أوسع لإعادة تموضعها الاستراتيجي، خصوصًا بعد سنوات من العقوبات والضغوط القصوى.
وتتمسك إيران بحقها في تخصيب اليورانيوم بنسبة 3.67%، وفق اتفاق 2015، وترفض المساس ببرنامجها الصاروخي أو تخليها عن حلفائها الإقليميين في سوريا والعراق واليمن ولبنان.
تصريحات وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي الأخيرة أكدت هذا التوجه، محذرًا من أن أي مساس بـ”الثوابت الوطنية” لن يمر مرور الكرام، رافضًا تحويل الملف إلى مادة للتجاذبات الإعلامية.
الضريبة الإقليمية.. ساحات تدفع الفاتورة
وبينما تدور عجلة التفاوض في العواصم الكبرى، تبرز مخاوف حقيقية من أن يكون الثمن الفعلي للصفقة الجديدة هو استمرار النفوذ الإيراني غير المنضبط في دول مثل سوريا والعراق واليمن.
فهذه الساحات، التي شكلت لسنوات خطوط تماس حادة بين طهران وخصومها الإقليميين، قد تُستغل كأوراق تفاوض، تترك فيها الجماعات المسلحة لتعيد إنتاج أدوارها، ما دام ذلك لا يهدد أمن القوى الكبرى مباشرة.
في اليمن، تواصل جماعة الحوثي المدعومة من إيران شن هجمات بطائرات مسيرة وصواريخ على الأراضي السعودية، رغم المبادرات السياسية المتكررة.
في العراق، لا تزال الفصائل المسلحة تعبّر عن نفوذ طهران بطرق تتجاوز الدولة، بينما تبدو الساحة السورية أكثر هشاشة، في ظل فراغات أمنية سمحت لإيران بإعادة تموضعها العسكري عبر الجنوب والوسط.
القلق الإسرائيلي من الاتفاق المحتمل لا يخلو من مبررات، إذ تعتبر تل أبيب أن أي اتفاق لا يحد من قدرات إيران الصاروخية أو نفوذها الإقليمي سيكون “اتفاقًا كارثيًا”، كما وصفه أكثر من مسؤول سياسي وعسكري هناك.
ويقول الباحث السياسي إيلي نيسان: إن إسرائيل قد تجد نفسها مضطرة للتحرك منفردة إذا شعرت أن أمنها مهدد، ويضيف: “تل أبيب تفضل التنسيق مع واشنطن، لكنها لن تنتظر الضوء الأخضر إذا رأت في الصفقة المرتقبة خطرًا وجوديًا”، في المقابل، يبدو أن الولايات المتحدة تسعى إلى تهدئة إسرائيل عبر وعود أمنية وتنسيق استخباراتي مكثف.