على مدى السنوات الثلاث الماضية، تطورت السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية من موقف المواجهة والتدخل إلى موقف يؤكد على المشاركة البناءة وبناء الجسور مع القوى الإقليمية الأخرى، حيث شرعت الرياض في تغيير مسارها الدبلوماسي المكثف، بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وبدعم من عائدات النفط الوفيرة، والنمو الاقتصادي القوي، والثقة بالنفس المتزايدة.
وباتت تتيح المشاركة للمملكة العربية السعودية تكريس طاقاتها لأجندة التحول الاقتصادي لرؤية 2030، مع تعزيز نفوذها العالمي أيضًا. ومع ذلك، فإن تجدد الصراعات، داخل وخارج الشرق الأوسط، كشف عن المستوى المرتفع المستمر للمخاطر الجيوسياسية التي تواجهها المملكة، وفقًا لما نشرته مجلة “انترناشونال انترست” الأميركية.
وأضافت المجلة، أن ذلك جاء ضمن مجموعة من العوامل، منها تضاؤل الثقة في الضمانات الأمنية الأمريكية، والضرورة الملحة لتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية، والتكاليف الأخلاقية والمادية لتدخلها العسكري في اليمن، أدت إلى تحول واضح في السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية بعيدًا عن المواجهة ونحو ذلك التوفيق.
وحدثت اللحظة المحورية في هذا التحول في 14 سبتمبر 2019، عندما أدى هجوم بصاروخ كروز وطائرة بدون طيار استهدف معالجة النفط في بقيق وحقل خريص النفطي في أرامكو، والذي يُنسب على نطاق واسع إلى إيران، إلى تعطيل أكثر من نصف إنتاج النفط في المملكة العربية السعودية. وردًا على الهجوم وقرار الولايات المتحدة الامتناع عن الانتقام من إيران، بدأت الرياض جهودها الخاصة نحو إجراء محادثات غير مباشرة مع طهران لتهدئة التوتر.
وفي الفترة 2015-2018، خرجت المملكة العربية السعودية من جائحة كوفيد-19 بنهجها الدبلوماسي أولًا في التعامل مع القضايا الإقليمية بشكل واضح، وتوجت قمة مجلس التعاون الخليجي في يناير 2021 في العلا بالمملكة العربية السعودية بتوقيع اتفاق أنهى المقاطعة التي دامت قرابة أربع سنوات على قطر، وانتهى العام بقيام ولي العهد الأمير محمد بجولة على الدول الخمس الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي في المملكة لسد الخلافات داخل الخليج وصياغة موقف موحد بشأن إيران.
ومع هذا التحول في النهج، وافق الدبلوماسيون السعوديون، الذين يعملون مع محاورين عمانيين موثوقين، في أبريل 2022 على وقف إطلاق النار بوساطة الأمم المتحدة في اليمن مع الحوثيين المتحالفين مع إيران. كما أعاد صناع السياسة السعوديون توجيه خطابهم فيما يتعلق بتركيا، مبتعدين عن تأطيرها كتهديد إلى اعتبارها شريكًا محتملاً. واختتم اجتماع يونيو 2022 بين ولي العهد الأمير محمد بن سلمان والرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أنقرة بالتعهد “ببدء حقبة جديدة من التعاون في العلاقات الثنائية”.
وفي الوقت نفسه، أثمرت المفاوضات التي سهلتها عمان، وفي أوقات مختلفة، العراق على مدار عامين، أخيرًا عندما توصلت المملكة العربية السعودية، في مارس 2023، إلى اتفاق مع إيران، بوساطة الصين، لاستعادة العلاقات الدبلوماسية، وفي أغسطس الماضي، ذكرت صحيفة وول ستريت جورنال، أن المسؤولين السعوديين والأمريكيين أحرزوا تقدمًا في اتفاق تاريخي لتطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل.
وفي حين أن الرياض ربما اختارت مسارًا أكثر حذرًا في السياسة الخارجية، إلا أنها تظل استباقية بالتأكيد، إذ يركز ولي العهد الأمير محمد بشدة على دفع المملكة العربية السعودية نحو مستقبل ما بعد النفط، والاستفادة من موارد البلاد لوضعها كلاعب جيوسياسي رئيسي يتمتع بقاعدة اقتصادية متنوعة، وبناءً على ذلك، فإن الدبلوماسية السعودية موجهة نحو إعادة تشكيل المنطقة بما يتوافق مع المصالح السعودية، ولعب دور مستقل ومؤثر على المسرح العالمي.
وفي مواجهة الجغرافيا السياسية العالمية المتغيرة، تؤكد الرياض نفسها كقوة متوسطة واثقة من نفسها، وتحت توجيهات محمد بن سلمان، تسعى المملكة العربية السعودية جاهدة إلى تعزيز مكانة الرياض باعتبارها القوة الرائدة في العالم العربي ولاعبًا بارزًا في الدبلوماسية الدولية.
وبشكل خاص، كثفت المملكة العربية السعودية مشاركتها الدبلوماسية، وركزت جهودها على تجديد صورة البلاد وسمعتها وكذلك سمعة ولي العهد. ويتم الحفاظ على التحالف الأمني للمملكة مع الولايات المتحدة بينما يتم تعزيز العلاقات الجديدة مع موسكو وبكين. علاوة على ذلك، تعمل المملكة العربية السعودية على تعزيز حضورها في المنتديات المتعددة الأطراف وإعادة صياغة نفسها كصانعة للسلام.
كما أن إعادة التوجيه الاقتصادي للمملكة العربية السعودية نحو آسيا وتعميق ارتباطاتها مع الصين قد قطعت شوطاً طويلاً بالفعل. ومع ذلك، وعلى الرغم من العلاقات المتنامية مع الصين، فإن القيادة السعودية تدرك أنه من غير المرجح أن تحل بكين محل واشنطن رغم أنها رفضت اتباع المساعي الأمريكية والأوروبية لعزل روسيا في أعقاب غزو أوكرانيا وتواصل العمل مع روسيا بشأن السياسة النفطية داخل تحالف أوبك +.
وفي جهودها لتعزيز مصالح البلاد، عملت الرياض على توسيع مشاركتها في المنتديات المتعددة الأطراف، على الصعيدين الدولي والإقليمي، إذ أن القوة المالية للمملكة تمكنها من لعب دور مهم ضمن إطار مجموعة العشرين (G20)، أكبر كتلة اقتصادية في العالم. لقد أثبتت مجموعة العشرين أنها آلية قيمة لتعزيز الأهداف السعودية. خلال قمم سبتمبر 2023، قاد المفاوضون السعوديون بمهارة الجهود التي تعارض “التخلص التدريجي من الوقود الأحفوري” المقترح، كما فعلوا في القمة السابقة في يوليو، حيث وافقوا على صياغة “إعلان قادة نيودلهي” بشأن مصادر الطاقة المتجددة فقط بعد أن يتضمن النص ” أ ” وذكر تقنيات أخرى للحد من الانبعاثات. وعلى هامش قمة سبتمبر 2023، تم الإعلان عن الممر الهندي-الشرق الأوسط (IMEC)، بدعم من المملكة العربية السعودية.
كما شنت الرياض حملة دبلوماسية ناعمة قوية تستهدف دول الجنوب العالمي، وخاصة عبر أفريقيا. وفي نوفمبر الماضي، استضافت الرياض القمة السعودية الأفريقية الافتتاحية، وهو تجمع جمع قادة من خمسين دولة من جميع أنحاء القارة. وفي القمة، تعهد ولي العهد الأمير محمد بدعم “الحلول المبتكرة” لمعالجة الديون الأفريقية، حيث أعلنت وزارة المالية السعودية عن خطط لصرف نحو 533 مليون دولار من تمويل التنمية. وأكد عقد القمة رؤية المملكة العربية السعودية لدمج أفريقيا في سياستها الخارجية المتنوعة وأولوياتها التجارية وإظهار القيادة العالمية من خلال رعاية روابط أقوى بين المنطقة العربية والقارة. كما شكلت جزءًا من حملة ناجحة وناجحة لتأمين موافقة الدول الأفريقية على ترشيح المملكة لاستضافة معرض إكسبو 2030 وكأس العالم لكرة القدم 2034.
وقد وسّعت الدبلوماسية السعودية الاستباقية المتعددة الأطراف آفاقها شرقًا أيضًا. وفي مارس 2023، وافق مجلس الوزراء السعودي على قرار الانضمام إلى منظمة شنغهاي للتعاون بقيادة بكين كشريك حوار. وبعد أربعة أشهر، انعقد الاجتماع الافتتاحي على مستوى القمة بين مجلس التعاون الخليجي ودول آسيا الوسطى الخمس في جدة. يمكن أن يمهد هذا التعاون الطريق أمام المملكة العربية السعودية لزيادة وصولها إلى الأسواق ومشاركتها في الطاقة النظيفة ومشاريع أخرى في آسيا الوسطى.
وفي الوقت نفسه، فإن قرار المملكة العربية السعودية بشأن قبول الدعوة لتصبح عضوًا كاملاً في البريكس – وهي مجموعة تتألف من الصين وروسيا وحفنة من الدول النامية الكبرى، لا يزال معلقًا. إذا اختارت الانضمام إلى مجموعة البريكس، فسوف تقدم المملكة دليلاً إضافيًا على سعيها إلى اتباع مسار عدم الانحياز بشكل تدريجي وستكون في وضع أفضل للعمل بناءً على اهتمامها المعلن بأن تصبح بطلاً للجنوب العالمي.
فيما أن التوسط في النزاعات ليس دورًا جديدًا للمملكة العربية السعودية، فقد شاركت المملكة العربية السعودية بنشاط في التوسط في بعض الصراعات الأكثر استعصاء على الحل في الشرق الأوسط، وخاصة الصراع العربي الإسرائيلي والحرب الأهلية في لبنان. ومع ذلك، فإن أنشطة الوساطة الأخيرة التي قامت بها المملكة تعكس الرغبة في ترسيخ نفسها كقوة متوسطة لها تأثير خارج جوارها المباشر.
وفي سبتمبر 2022، تعاونت المملكة العربية السعودية وتركيا لتسهيل تبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا. وبعد ثلاثة أشهر، ساعد السعوديون في التوسط في صفقة تبادل الأسرى بين واشنطن وموسكو. وفي مايو 2023، استضافت جدة مفاوضات وقف إطلاق النار بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع شبه العسكرية، كجزء من جهد مشترك مع الولايات المتحدة. وفي أغسطس الماضي، استضافت الرياض قمة سلام استمرت يومين بشأن أوكرانيا، وحضرها ممثلون عن أكثر من أربعين دولة عبر الجنوب العالمي.
وتثبت هذه المبادرات الدبلوماسية إلى انتقال الرياض نحو دور موجه نحو السلام، مما يمثل تحولًا كبيرًا بعيدًا عن أكثر من عقد من سياسات المواجهة والتدخل. لم تضع المحادثات الأوكرانية في جدة المملكة العربية السعودية في دائرة الضوء العالمية بشأن قضية حرجة فحسب، بل أتاحت أيضًا لمحمد بن سلمان فرصة لوضع نفسه كزعيم عالمي يتمتع بـ “قوة الدعوة” ونفوذ يصل إلى ما هو أبعد من منطقته على الرغم من التحديات المستمرة.