شهد العراق خلال العشرين عاما الماضية أزمات عديدة متلاحقة، سياسيا وأمنيا واجتماعيا وحتى على مستوى الموارد المناخية والمائية؛ ما أثر بشدة على الأوضاع الاقتصادية بالبلاد، إذ بعدما كانت تُعرف ببلاد ما بين النهرين باتت تعاني إشكالية كبيرة في اتساع رقعة التصحر إلى حدود غير مسبوقة، بل تكاد تكون الأكبر في التاريخ.
وبينما كان العراق أحد أكبر البلدان المصدرة للمنتجات الزراعية في منطقة الشرق الأوسط خلال عقود قليلة ماضية، بات الآن يستورد معظم الحاجات الزراعية من دول الجوار وتحديداً إيران وتركيا، وهو ما يدفع إلى التساؤل عما إذا كانت ثمة دوافع سياسية واقتصادية رئيسة تقف خلف ملف قطع إمدادات العراق من المياه من هاتين الدولتين.
وكشف وزير الموارد المائية العراقي عون ذياب، في 3 يوليو، عن أن العراق يمر بأصعب مراحل الجفاف نتيجة قلة الإطلاقات المائية؛ ما دفع الحكومة إلى تقليل الأراضي الزراعية لهذا العام، وفيما تحدث عن بذل جهود استثنائية لتأمين مياه الشرب وتحسين بيئات الأنهر والأهوار، أشار إلى أن الحكومة منعت زراعة الشلب والذرة الصفراء لهذا العام.
ورغم عدم تجاوب تركيا وإيران خلال السنوات الماضية مع مطالب العراق بزيادة حصصه المائية، تحدث الوزير العراقي عن “مؤشرات إيجابية وتفاهمات مع الجانب التركي لزيادة نسبة الإطلاقات المائية لنهري دجلة والفرات”، وتستمر تأثيرات الأزمة بضرب القطاع الزراعي في البلاد؛ إذ ينخفض حجم الأراضي الصالحة للزراعة كل سنة.
ودفعت الأزمة التي يعيشها العراق رئيس الوزراء محمد شياع السوداني إلى القول، مطلع شهر مايو الماضي، إن انخفاض مناسيب المياه يستدعي تدخلاً دولياً عاجلاً، مشيراً إلى أن الأزمة بدأت منذ ثمانينيات القرن الماضي إلا أن الحكومات السابقة لم تكاشف العراقيين بها، وبعد أن كان قطاع الزراعة في العراق يمثل أحد أهم روافد الإيرادات العامة للدولة باتت مساهمته في رفد الموازنة لا تتجاوز حدود اثنين في المئة، وهو الأمر الذي ستكون له عواقب اقتصادية واجتماعية وسياسية كبيرة على البلاد.
ويرى الخبراء أن أزمة الجفاف في العراق “ستخلق ردود فعل اقتصادية يصعب احتواؤها في المستقبل”، خصوصاً مع استمرار الأزمة وعدم قدرة الحكومات المتعاقبة على احتوائها، فضلا عن أن الجفاف سيؤدي إلى “عمليات تصادم اجتماعي كبير خصوصاً في المحافظات الجنوبية”، ومن ثَم فإن الآثار الاقتصادية لها ستكون كبيرة مع عدم تجاوز إيرادات العراق غير النفطية معدل ثلاثة في المئة، ويبدو أن “خسارة الأراضي الزراعية ستدفع الطبقات المشتغلة بالزراعة نحو المدن”، لذا فإن هذا الأمر “سيمثل عبئاً إضافياً على اقتصاد البلاد ويزيد من معدلات البطالة”.
وتمثل الإيرادات النفطية للبلاد دافعاً رئيساً في عدم اتخاذ صانعي القرار الاقتصادي لحل هذه الإشكالية، بحسب داغر الذي لفت إلى أن الدولة الآن “قادرة بسبب إيرادات النفط على استيعاب مغادري المناطق الزراعية في وظائف حكومية بسيطة، ولذلك هي لا تدرك حجم الإشكالات المستقبلية”. وتابع أن هذه المعالجات تمثل “محاولات لامتصاص غضب تلك الطبقات” إلا أنها لن تتمكن من الاستمرار في هذا السلوك على المدى البعيد، مبيناً أن “الغضب الشعبي سيكون شديداً”. وختم بأن إعادة إحياء القطاعات الإنتاجية بعد انهيارها بشكل كامل سيمثل مهمة صعبة للغاية، خصوصاً أن الطبقة الحاكمة “غير قادرة على تطبيق أي إصلاحات وتعتمد بشكل كامل على الريع النفطي، الذي حالما ينتهي سينكشف حجم الإشكالات في البلاد”.
ولا تقتصر الإشكالات عند المساحة الاقتصادية فحسب؛ إذ إن هناك تداعيات اجتماعية وسياسية كبيرة، وأسهمت هذه العوامل في تغيير الديموغرافيا العراقية، خصوصاً مع ترك كثير من المجتمعات الفلاحية مناطقهم ونزوحهم نحو المدن في محاولة لإيجاد أنشطة اقتصادية جديدة، وتمثل هذه الهجرة، بحسب اقتصاديين، “قتلاً لأقدم نشاط تاريخي على أرض العراق” إذ باتت البلاد تستورد حتى ما كانت تزرعه، وفي كل عام يتم تخفيض نسبة الأراضي المزروعة بحدود كبيرة.
وكانت منظمة الهجرة الدولية التابعة للأمم المتحدة، قالت في يونيو الماضي، إن أكثر من 62 ألف شخص نزحوا داخل العراق، حتى سبتمبر نتيجة الجفاف المستمر منذ أربع سنوات، مرجحة أن يرتفع عدد النازحين نتيجة تدهور الوضع المائي في البلاد.
وبات العراق “مهددا بشكل كبير نتيجة أزمة الجفاف” بسبب “الفشل الدبلوماسي العراقي في الحصول على حصص البلاد المائية من تركيا وإيران”، خاصة أن في مقدم التداعيات “تحويل عديد من المناطق الزراعية إلى استثمارات في قطاع الإسكان”، وبيَّن أن هذا الأمر إضافة إلى كونه يمثل خسارة لمساحات زراعية كبيرة لا يمكن إعادة استصلاحها، “يسهم في تغيير البنية الاجتماعية للبلاد”.
كما أدى الجفاف في العراق إلى “انتقال الكوادر البشرية العاملة بالزراعة إلى مراكز المدن القريبة، وهذا الأمر أدى إلى تغيير ديموغرافي ليس في صالح العراق”، خصوصاً أن هذه الطبقات “ليست منتجة في المدن، ولا تمتلك القدرة على الدخول في سوق العمل؛ الأمر الذي سيزيد من معدلات البطالة”.
ورغم الانهيارات الكبيرة التي يعانيها قطاع الزراعة في العراق، خلال السنوات الماضية، فإن الجماعات المسلحة الموالية لإيران لا تخفي معارضتها أي مشاريع زراعية من الدول العربية داخل العراق، وبينما يتضاءل حجم المساحات الخضراء في العراق، يرى مراقبون أن حلفاء طهران يخشون احتمال نجاح أي مشروع لا تشرف عليه إيران بشكل مباشر خوفاً من أنها قد تمثل بوابة لربط العراق بشبكة مصالح مع دول مؤثرة إقليمياً ودولياً.
وفي حين تقطع إيران وتركيا حصص العراق المائية، لا تبدي الجماعات السياسية والمسلحة الموالية لها أي مواقف إزاء ذلك، وتكتفي بمواجهة أي مشاريع زراعية من الدول العربية؛ إذ عملت على إجهاض مشروع استثمار بادية السماوة من قِبل شركات سعودية عام 2020.
وبينما كانت هذه الجماعات تقوم بـ”ندب المياه الجوفية” بحجة أن الاستثمارات السعودية تحاول استنزافها من خلال ادعائها أن المشاريع “مخصصة لزراعة الأعلاف”، لا يكترث أي منها للحديث عن نحو 40 نهراً تقطعها طهران وتجفف روافدها التي تصب في العراق.
ويرى مراقبون أن هذا السلوك يؤكد أن إحدى غايات قطع المياه الرئيسة هي إبقاء العراق مستهلكاً للمنتجات الزراعية الإيرانية.