في ظل التحضير لتشكيل وزاري جديد انطلاقًا من مدينة بورتسودان، تتحرك السلطات المتمركزة هناك بخطوات متسارعة لإعادة هيكلة النقابات العمالية، وسط تحذيرات من عودة نفوذ نظام الإخوان داخل مؤسسات العمل المهني.
وكشفت تقارير موثوقة – من بينها تقرير صادر عن مركز “عاين” – أنّ هذه التحركات بدأت منذ انقلاب أكتوبر 2021، وتصاعدت بشكل لافت في أبريل الماضي، من خلال محاولات “توفيق أوضاع” المكاتب التنفيذية للنقابات، توطئةً لإجراء انتخابات وشيكة، غير أن هذه الخطوة توقفت لاحقًا بعد تصاعد الجدل القانوني والسياسي بشأنها.
قرارات حكومية تُمهّد الطريق أمام الإخوان داخل النقابات
وفي مايو الماضي، أصدرت مسجّلة تنظيمات العمل، آمنة الصادق كبر، قرارًا بحلّ الدورة النقابية الحالية، بذريعة انتهاء المدة القانونية وضرورة حماية ممتلكات النقابات، وقد بُني هذا القرار على أساس قانون النقابات لسنة 2010، وهو القانون الذي كان معمولًا به خلال فترة حكم الرئيس المخلوع عمر البشير، والذي أُلغي عمليًا بعد الثورة السودانية في ديسمبر 2018.
وبرّرت كبر قرارها بالقول: إنه يأتي ضمن سياق حماية أموال وممتلكات النقابات في ظل الظروف الأمنية المتدهورة، غير أن مراقبين ونقابيين اعتبروا الخطوة تمهيدًا واضحًا لإعادة النظام القديم، واستغلال الحرب لتفكيك ما تبقى من مكتسبات الثورة في المجال النقابي.
النقابات الحالية امتداد لنظام البشير
وبحسب ما أورده مركز “عاين”، فإن غالبية المكاتب النقابية الحالية تشكلت وفق قانون 2010 الذي سنّه نظام البشير، وجرى تجميدها بعد الثورة، ثم أعيد تنشيطها بعد انقلاب البرهان، ويرى مراقبون أنّ ذلك يعيد التمكين لعناصر الحركة الإسلامية داخل النقابات؛ مما يقوّض فرص الإصلاح النقابي المنشود.
وحذّر الخبير النقابي والقانوني محمد التوم إسماعيل من التناقض القانوني بين قرارات مسجّل تنظيمات العمل وقرارات مجلس السيادة السابقة، وأضاف: أن هذه الفوضى التشريعية تكشف خللًا مؤسسيًا يفتح المجال لإعادة تمكين المؤتمر الوطني (الحزب الحاكم سابقًا).
مخاوف نقابية من سيطرة السلطة على العمل النقابي
وفي تصريحات صحفية، وصف عضو لجنة المعلمين السودانيين، علي عبيد، قرار حلّ النقابات بـ”كلمة حق أُريد بها باطل”، وأوضح أنّ النقابات التي جرى حلها تفتقر للشرعية منذ سنوات، لكنها في ذات الوقت شكّلت بآليات غير قانونية، ولا يمكن فرض لجان بديلة دون إرادة النقابيين.
وأكّد عبيد وجود ثلاث خطوات أساسية لمواجهة القرار: الطعن القانوني، التوجه إلى منظمة العمل الدولية، والتنسيق مع القطاعات المهنية للدفاع عن استقلال العمل النقابي.
التنسيقيات ترفض محاولة “إعادة التمكين”
كما أعلنت تنسيقية المهنيين والنقابات رفضها القاطع للقرارات الأخيرة، ووصفتها بأنها “محاولة فاضحة لإعادة تدوير أجسام نقابية تابعة للنظام البائد”، محذّرة من تمرير لجان تمهيدية تُمكّن الإخوان مجددًا من السيطرة على النقابات.
وشددت على أن أي إعادة لتنظيم النقابات يجب أن تتم تحت مظلة مدنية ديمقراطية، وبإرادة القواعد لا عبر قرارات فوقية من سلطة الأمر الواقع.
خبراء يحذرون من خرق القوانين الدولية
ومن ناحيته، وصف الخبير القانوني المعز حضرة القرار بـ”العبثي”، مؤكدًا أنه يفتقر إلى المشروعية في ظل الحرب الدائرة بالسودان، وأوضح أنّ الدولة، بدلًا من تركيزها على وقف القتال وتوفير الأمن، تسعى لإعادة عناصر النظام القديم إلى مفاصل النقابات، ضاربةً عرض الحائط باتفاقيات العمل الدولية التي صادق عليها السودان.
وفي السياق ذاته، حذّر الخبير محجوب كناري من أن هذا القرار يعدّ انتكاسة حقيقية، ويكرّس العودة إلى مرحلة ما قبل الثورة، كما أشار إلى تناقض القرار مع قانوني النقابات لسنتي 2018 و2022، وكذلك مع الاتفاقية الدولية (87) لعام 1948.
كيف مهّد نظام البشير الطريق للهيمنة على النقابات؟
ومنذ انقلاب البشير في يونيو 1989، عمد النظام إلى تدمير البنية المستقلة للحركة النقابية، واستبدال “نقابة المهنة” بـ”نقابة المنشأة”، لتفتيت الصفوف وتسهيل السيطرة الحكومية، كما تم تفعيل قانون النقابات لسنة 2010، الذي منح جهاز الأمن صلاحيات واسعة في التعيين والإقصاء، وجعل من العمل النقابي أداة بيد النظام.
واستخدمت جماعة الإخوان المسلمين في السودان النقابات كمنصات للتجنيد السياسي والتغلغل في مفاصل الدولة، مع ربط النشاط النقابي بأجهزة الأمن، وتحويله إلى منظومة خاضعة بالكامل للحكم الشمولي.
المعركة على النقابات جزء من صراع أوسع على مستقبل السودان
لذا فعودة الحديث عن قوانين نقابية بائدة ومحاولات إعادة تمكين الإخوان المسلمين داخل النقابات ليست مجرد إجراءات إدارية، بل هي مؤشرات خطيرة على مساعٍ لفرض سيطرة النظام القديم على الحراك المهني والاجتماعي، وفي ظل غياب المؤسسات المدنية المنتخبة، تصبح حماية العمل النقابي الديمقراطي ضرورة وطنية لضمان عدم انزلاق البلاد إلى مرحلة جديدة من القمع السياسي تحت غطاء قانوني.
وليست معركة النقابات اليوم في السودان فقط معركة قانون، بل معركة على استقلالية القرار المهني، وحق الفئات العاملة في تمثيل حقيقي يعبّر عن تطلعات الثورة، لا عن إرث النظام القديم.