بينما تتراجع قدرة جماعة الإخوان المسلمين على الحضور العلني في الساحات التقليدية كالجامعات والمساجد، يبدو أن التنظيم لم يفقد قدرته على التكيّف، بل دخل مرحلة جديدة من النشاط “اللامرئي” على المنصات الرقمية.
من المنبر إلى الريلز: كيف غيّرت الإخوان أدواتها الدعائية في زمن السوشيال ميديا؟
ففي السنوات الأخيرة، أعادت الجماعة رسم استراتيجيتها الاتصالية لتواكب تحول جمهورها نحو العالم الرقمي، مستفيدة من ديناميكيات الإعلام الجديد، ولا سيما الفيديوهات القصيرة ومنصات البث المباشر.
واللافت في هذا التحول أن الجماعة لم تعد تعتمد على الخطابة المباشرة أو التصريحات المعلنة، بل غيّرت أدواتها لتُخاطب جمهورًا جديدًا بطريقة غير تقليدية.
فبدلًا من المنابر، أصبحت “الريلز” و”الشورتس” هي ساحة المعركة الجديدة. من خلال هذه المقاطع القصيرة، تُبث رسائل مشحونة بالمظلومية، والهوية الإسلامية، والتضامن مع قضايا كبرى كغزة والإسلاموفوبيا.
ويتم تقديم هذه المضامين عبر قوالب عاطفية، تُثير التفاعل أكثر مما تطرح حججًا فكرية، ما يتيح لها الوصول إلى جمهور واسع دون إثارة الريبة المباشرة.
تيك توك ويوتيوب وفيسبوك.. ساحة جديدة لمعركة الإخوان على العقول
منصة “تيك توك” تمثل ركيزة أساسية في هذا التحول عبر حسابات مجهولة الهوية، تُعاد تدوير خطب قديمة وشعارات دينية أو تحفيزية، تُغلف بطابع “إلهامي” دون أي إشارة صريحة إلى الجماعة.
وبهذه الطريقة، يتم خلق حالة من “القبول غير الواعي” لفكر الإخوان، خصوصًا في أوساط الشباب.
أما على يوتيوب، فالمشهد يبدو أكثر تنظيما؛ إذ تُبث برامج سياسية تحليلية عبر قنوات محسوبة على الجماعة مثل: “وطن” و”مكملين”، وهي قنوات مدعومة خارجيًا، تُقدّم محتوى يبدو في ظاهره نقدًا سياسيًا عامًا، لكنه يعيد إنتاج سرديات الجماعة حول المظلومية والشرعية والانقلاب.
وفيسبوك لم يُغادر المعادلة، بل حافظ على دوره المركزي، خاصة من خلال المجموعات المغلقة التي تُستخدم كمساحات تعبئة فكرية وتنظيمية. هنا يُعاد نشر خطابات قيادات تاريخية، وتُجرى لقاءات عبر البث المباشر تُعزز التماهي مع سردية الجماعة حول الملاحقة والاضطهاد.
فهذه المجموعات تلعب دورًا مزدوجًا: حاضنة رقمية للتنظيم، ومنصة لتوسيع شبكات التأييد غير الرسمي.
لماذا تستهدف الإخوان الجاليات العربية في أوروبا؟
ما يُثير الانتباه في هذه الاستراتيجية هو استهداف الجماعة لفئات بعينها: الشباب العرب المهاجرون حديثًا، والطلبة في الخارج، والفئات المهمشة ثقافيًا واجتماعيًا في أوروبا.
وهؤلاء يمثلون بيئة خصبة للخطاب الهوياتي العاطفي، خاصة في ظل شعورهم بالاغتراب. تجد الجماعة في هذا الشعور نافذة واسعة للدخول، وتُقدّم خطابًا يخلط بين الدين والسياسة والتاريخ والهوية في آن واحد.
استراتيجية “الإخوان” للتمويه الرقمي والتأثير الهادئ
وتمكن نقطة القوة الأبرز في هذه الاستراتيجية في غياب العلامة التنظيمية المباشرة، حيث نادرًا ما تظهر كلمة “الإخوان” صراحة في هذه المواد. وبدلًا من ذلك، تعتمد الجماعة على اللعب بالعواطف: الظلم، العدالة، الدين، والشعور بالخذلان.
فالمحتوى لا يُقدَّم بشكل عقائدي صارم، بل يُبنى بعناية وفق منطق خوارزميات التفاعل، التي تفضل ما هو قصير، جذاب، مثير للمشاعر.
لكن هذه الديناميكية الرقمية لا تخلو من تبعات أمنية مستقبلية، فحتى في ظل غياب الهيكل التنظيمي الظاهر، تنمو داخل مجتمعات المهجر دوائر تأييد صامتة، أو ما يُمكن وصفه بـ”التعاطف غير المنظور”.
وهذه الدوائر قد تتحول لاحقًا إلى أدوات ضغط سياسي أو انتخابي، أو إلى مظلات دعم لوجستي وفكري في أوقات التوتر، والأخطر من ذلك أن الجماعة أصبحت أكثر براعة في إخفاء آثارها الرقمية، من خلال استخدام الشبكات الخاصة الافتراضية (VPN) وهويات وهمية، ما يجعل ملاحقة نشاطها أكثر صعوبة.
مخاطر أمنية مستقبلية
وفي قراءة هذه التحولات، يرى عدد من الخبراء أن جماعة الإخوان لم تفقد قدرتها على التأثير، بل غيّرت قواعد اللعبة، فالإعلام لم يعد مجرد أداة للدعاية، بل ساحة للتجنيد وصناعة التأثير، فالتحول من الخطابة إلى الريلز، ومن المنابر إلى الحسابات المجهولة، ليس مجرد تطور تقني، بل استراتيجية مدروسة تهدف إلى بناء جيل جديد من المؤيدين، بطريقة لا يمكن تتبعها بسهولة، ولا يمكن مواجهتها بالوسائل التقليدية.
وتشير تقارير، أن جماعة الإخوان المسلمين تستغل المنصات الرقمية لتوسيع نفوذها في أوروبا، خاصة بين الجاليات المسلمة، كما تُظهر دراسات أن الجماعة تعتمد على استراتيجيات رقمية متطورة للوصول إلى جمهور أوسع، مع التركيز على الشباب والفئات المهمشة.
وأكد محللون، أن الإخوان باتوا أكثر براعة في مخاطبة المستقبل، من خلال أدوات الحاضر، مستفيدين من ثغرات الإعلام الاجتماعي، واحتياجات جمهور يبحث عن معنى، وهوية، وانتماء، مما يستدعي اهتمامًا متزايدًا من قبل الحكومات والمجتمعات لمواجهة هذه التحديات.