لم تكتف جماعة الإخوان المسلمين بالظهور بوجهها الحقيقي في الدول العربية والأجنبية فقط، وإنما ظهرت بعدة أوجه وأسماء التي رغم اختلافها وتعددها، إلا أنها تهدف لخدمة غرض واحد وهو دعم الجماعة وصبغ الحكم بمسوغات دينيّة واهية، وأيضًا دَفْع المجتمع إلى صراع دموي ظاهره دعوة إلى الالتزام “بالدين”، وباطنه الوصول إلى الحكم، حتى لو أدَّى ذلك إلى القضاء على مقاصد الشريعة ذاتها.
وهو ما حدث في عدة دول عربية، من بينها الجزائر التي تزايدت فيها الأحزاب الدينية في البداية، ورغم ذلك تقلصت حريّة تعاطي كل فرد جزائري مع القضايا المصيرية الكبرى، ثم أصبح حجر عثرة أمامها، وهو ما يثير تساؤلات عديدة عن السيناريوهات المحتملة لتواجدهم بالانتخابات الرئاسية المقبلة.
وقالت دراسة حديثة نشرها مركز تريندز للبحوث والاستشارات تحت عنوان: “الإخوان المسلمون في الجزائر.. تناسل الأحزاب وتعدّد المقاصد”، التي تناولت السيناريوهات المحتملة لتواجدهم بالانتخابات الرئاسية المقبلة.
واوضحت الدراسة، أنه بهذه الطريقة تتكيَّفت الأحزاب الدينية من خلال التحايل مع القوانين التي نظمت اعتماد الأحزاب، سواء تلك التي ظهرت قبل القانون، وأسهمت في الإرهاب، أو تلك التي تحولت من جمعيات ثقافية واجتماعية إلى تنظيمات حزبية وازداد نشاطها حين وضعت الحرب الأهلية أوزارها في الجزائر، ومنها بوجه خاص”حركة مجتمع السلم”(حزب الإخوان المسلمين في الجزائر)، والأحزاب التي تفرعت عنه بعد ذاك.
وتركز هذه الدراسة على قضية ذات طابع إشكالي، تتعلق أساسًا بدور “الإخوان المسلمين” السياسي لجهة الشراكة في الانتخابات وفي الحكم، وخروج عدد من الأحزاب الإسلامية من تحت عباءتهم، في“مسار تناسلي“، تعددت فيه مقاصد، وذلك من خلال الإجابة عن التساؤلات الآتية: كيف تمكَّن الإخوان المسلمون في الجزائر من المشاركة في الحكم؟ ولماذا أصبح الإخوان المسلمون(حمْس) شريكًا فاعلًا في الانتخابات والسلطة، وفي الحكم مع عدم تحمّلهم تبعات ومسؤولية القصور الحكومي؟ وما السيناريوهات المتوقعة لعلاقتهم بالسلطة في المستقبل المنظور؟.
وشرحت الدراسة، أنه تم تشكل الأحزاب الدينية في الجزائر من خلال دورها في تحويل التنظير، أو الاقتناعات الفكرية، إلى فعل وممارسة في لحظة غضب اجتماعي عام، وذلك أثناء أحداث الخامس من أكتوبر 1988، فقد رأت فيها مدخلًا للانتقال من العمل الدعوي إلى النشاط السياسي، أي الخروج من المساجد والجلسات الخاصة، والمحاضرات في الجامعات والمراكز الثقافية، إلى الفضاء الاجتماعي العام، بما في ذلك الشارع.
وطوّعت التنظيمات الدينية –التي كانت تعمل في السرية– الغضب الاجتماعي لمصلحتها، مع أن” الغضب مخلوق وحشي”، وكانت تلك بداية بَوْحِها بما يختلجُ في صدور قادتها لعقود مّرت في انتظارها لمواجهة تكون مدعومة من غالبية الشعب أو على الأقل مبررة.. مواجهة تكْسر حواجز الخوف، وتُنْهي تحكّم الحزب الواحد –ولو نظريًّا– في مسار الدولة ومصيرها، وتطرحُ في وقت لاحق خطابًا مغايرًا يُحوِّل الخلافات فيما بينها –القائمة على الاجتهاد في طرح القضايا وفهمها –إلى اتفاقات.
وعلى خلاف التنظيمات والجماعات المعارضة –غير الشرعية في ذلك الوقت– أعطت الجماعات الدينية لمحاربة الفساد بعدًا أخلاقيًّا، مما أكسبها جماهيريّة واسعة، مع أن الرئيس الشاذلي بن جديد، قد زاد من الجرعة الدينية داخل مؤسسات الدولة، وخصوصًا الجامعات، مثلما أتاح مساحة حرية لقادتها للتعبير عن اجتهاداتهم وآرائهم، التي كان بعضها مخالفًا لتوجُّهات الدولة، ومُزْعجًا لنظام الحكم.
وكان ترجيح السلة في الجزائر لكفة الإسلاميين قبل أحداث أكتوبر 1988، فعلًا سياسيًّا، بل مشروعًا استراتيجيًّا، على غرار تجارب دول عربية أخرى، شكل فيها تيار الإسلام السياسي قوة منافسة للسلطة، لكن اتّضح بعد ذلك أنه مشروع فاشل بالنسبة إلى الدولة، ومن خلاله وعبر عشر سنوات لاحقة “انتقلت الجزائر من دولة كانت تبدو من أكثر دول أفريقيا والعالم العربي استقرارًا على الصعيد السياسي، إلى دولة يخافها جيرانها لكونها بؤرة ضخمة من عدم الاستقرار..”.
وانتظر تيار الإسلامي السياسي، وفي مقدمته جماعة الإخوان المسلمين في الجزائر، أكثر من ربع قرن، حتى يصبح مؤثرًا في صناعة القرار، وذلك حين وظف الغضب الشعبي، الذي بدا عارمًا في أحداث أكتوبر 1988، ووصل إلى درجة الانفجار، ومع أنه كان متوقعًا من ناحية حركته وتوظيفه، إلا أنه لم يكن منتظرًا بالحدة التي ظهر عليها، والتي أتاحت للجماعات الدينية الظهور العلني كقوة فاعلة ومؤثرة في الأحداث بعد ذلك.
وباعتماد دستور 23 فبراير 1989، وطبقًا لمادة الأربعين، ظهرت أحزاب من كل الاتجاهات، وانتشرت بشكل لافِتٍ، فيما كانت التنظيمات الإسلامية تسير بحذر نحو تحقيق أهدافها، ويسعى كل منها للسيطرة على الساحة، وظهر أول حزب إسلامي معترف به حمل اسم الجبهة الإسلامية للإنقاذ برئاسة عباسي مدني، وبموازاته ظهرت جمعية الإرشاد والإصلاح برئاسة محفوظ نحناح، وجبهة النهضة الإسلامية برئاسة عبد الله جاب الله، ورابطة الدعوة الإسلامية برئاسة أحمد سحنون.
كما أنشأ الإخوان المسلمون في الجزائر حزبهم عام 1990، وأطلقوا عليه اسم حركة المجتمع الإسلامي تيمُّنًا بـ”حركة المقاومة الإسلامية” (حماس) في فلسطين، لكنهم وطبقًا للتغيرات القانونية التي طالت الأحزاب في العام 1996، بحيث لا يسمح بأن تحمل الأحزاب اسمًا إسلاميًا أو قوميًا أو جهويًا، غيّروا اسم حزبهم ليصبح، كما هو في الوقت الحالي، (حركة مجتمع السّلم) (حمْس).
ومنذ ذلك الحين لم تتخل الجماعة عن المشاركة في كل الاستحقاقات الانتخابية، وكان من المتوقع لدى كثير من المتابعين، أن يشارك الإخوان في الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في 7 سبتمبر 2024، إما باختيار مرشح منهم، أو بدعم مرشح توافقي، يحتمل أن يكون الرئيس عبد المجيد تبون في حال ترشحه لعهدة ثانية.
وفي هذا الإطار، شهدت صفوف الإخوان مؤخرًا في الجزائر رجة قوية أحدثتها الانتخابات الرئاسية المقبلة، أفضت إلى انشطار التيار بين مؤيد لمرشح السلطة وبين معارض لها، قبل أن يتم انقلاب أبيض داخل الحركة الأم، التي رشحت رئيسها الحالي، بدل السابق الذي كان يهيئ نفسه لخوض الاستحقاق قبل أشهر عدة ، إذ أعلنت حركة مجتمع السلم (حمس) أكبر الأحزاب الإخوانية في الجزائر ترشيح رئيسها الحالي عبدالعالي حساني شريف، لخوض سباق الانتخابات الرئاسية بدلًا من رئيسها السابق عبدالرزاق مقري، الذي عبّر منذ أشهر عن طموحه في خوض الاستحقاق باسم الحركة.
وتروج جماعة الإخوان المسلمين في الجزائر في خطابها السياسي حين تواجه نقدًا من الرأي العام أم من الأحزاب لموقفها القائل: “نحن نشارك في السلطة، وليس في الحكم”، في مسعى منها لإبعاد الجماعة عن تحمل أي مسؤولية، على ما في ذلك من مغالطة باتت معروفة للجميع، ولكنها لا تزال تروج لها.
وهو ما يثبت وجود مقاصد ظاهرة ومعلنة، منها: اعتبار الإخوان مشاركتهم دعمًا لبناء الدولة الجزائرية في مرحلة ما بعد الإرهاب، وإظهار الإخوان كجماعة تميل إلى الحوار، وترفض عنف الجماعات الإسلامية الأخرى، الأمر الذي زيّن للسلطة سوء أعمالها فقامت بإشراكهم في السلطة.
أما الأهداف المستترة، ذات صلة بالخارج، وتحديدًا بالتنظيم العالمي للإخوان، منها مواصلة عملية الاختراق لنظام الحكم، حتى لا يتم تكرار التجربة المصرية، حين وجد الإخوان أنفسهم في السلطة دون تحضير مسبق، انتهى بهم إلى الإبعاد عن الحكم، وإحياء فكرة التنظيم (الإخوان) في ظل رفض عربي وتوصيفهم بالإرهاب، من خلال تقديم تجربة الإخوان في الجزائر، والتأثير في القرار السياسي الجزائري تجاه الدول العربية الأخرى المعادية للإخوان.
ويرى كاتب الدراسة، أن السلطة معلومات كثيرة أو قليلة عن مقاصد وأهداف الإخوان، ولكنها لا تتوجّس من وجودهم خيفة، وترى فيهم حلًا بديلًا من التنظيمات الإسلامية الأخرى، وخصوصًا التي تتبنى العنف والإرهاب، لكنها تعاملهم بحذر، وخاصة المؤسستين الأمنية والعسكرية،
لذا فإن هناك ثلاثة سناريوهات محتملة لعلاقتهم بالسلطة الحاكمة، أولًا: أن تستمر مشاركتهم في الحكم، أو كما يسمونه هم “السلطة”، في حدودها الدنيا، كما هي الآن ـ مهما كانت النتائج التي يحققونها في الانتخابات.
وثانيًا: أن يتم إبعاد مثليهم من الترشح للرئاسيات، كما حدث في مرات سابقة، حين كانوا تحت قيادة محفوظ نحناح، وإن كان هذا أمرًا غير وارد في الوقت الراهن، إذ من المتوقع ترشُّح أحدهم لإحداث توازن في الانتخابات المقبلة، خصوصًا بعد أن أعلنت لويزة حنون، رئيسة حزب العمال، عن ترشحه، ثالثًا: أن تتسع مساحة مشاركتهم، بحيث تشمل حقائب سيادية، وقد يصلون إلى رئاسة الحكومة، وهذا رهين مدى تقبُّل الجيش لدورهم ووجودهم وعلاقتهم بالخارج.