رغم ما يردده أعضاء حزب الله اللبناني، فإنه السبب في انهيار الأوضاع ببيروت والاستفادة منها أيضا؛ إذ عطل الإصلاحات الضرورية للتعافي في مقابل “بناء دولته” وتوسيع نفوذ مؤسساته المالية والمصرفية، وكذلك استغلال الأزمة الوطنية في لبنان لتوسيع دوره في القطاع الخاص.
وكشفت دراسة حديثة بعنوان “عصابات الكاش: كيف يستفيد حزب الله من الأزمة في لبنان” الصادرة عن “معهد واشنطن”، دور الحزب في تعطيل الإصلاحات الضرورية للتعافي في مقابل “بناء دولته” وتوسيع نفوذ مؤسساته المالية والمصرفية، وكذلك استغلال الأزمة الوطنية في لبنان لتوسيع دوره في القطاع الخاص.
وأكدت الدراسة أن عجز المؤسسات المالية عن إعادة الودائع سمح بانتشار الاقتصاد النقدي الذي صب في مصلحة “حزب الله”، وتحديداً مؤسسة “القرض الحسن” التي استفادت من مليارات الدولارات التي تدرها التحويلات وشركات الصرافة وتدفق الأموال العراقية.
وتضمنت عرضاً تاريخياً للخطوات التي أدت إلى ما وصل إليه لبنان، انطلاقاً من عام 2020 عندما قررت الحكومة التي يترأسها حسان دياب “التخلف الشديد وطويل الأمد عن سداد 32 مليار دولار من الديون السيادية، وعدم تفاوض الحكومة مع حاملي سندات الـ “يوروبوند” أو المستثمرين، ولم تقدم أي إستراتيجية لمعالجة عواقب التخلف عن السداد، وقد مهد هذا التقاعس الطريق أمام الاقتصاد النقدي.
وأضافت: أن “التخلف لم يكن محتماً”، ولكن خبراء نصحوا به الرئيس ميشال عون تمهيداً لتوزيع الخسائر الفادحة على الجهات المسؤولة عن الأزمة، لكن “الخطة لم تأخذ في الحسبان التأثير الهائل لحزب الله وحلفائه على صنع القرار وعرقلته في البلاد”.
وينقل البحث عن أعضاء في “التيار الوطني الحر” وجود فكرة لإغلاق 60 مصرفاً لبنانياً وإصدار تراخيص لإنشاء خمسة مصارف جديدة لكي تبدأ العمل مجدداً من الصفر، وقد بدأت معالم ذلك بالظهور مع دعوة لجنة الاقتصاد النيابية إلى عقد جلسة خاصة لمناقشة الترخيص لمصارف جديدة، في وقت يبقى مشروع قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي داخل أدراج مجلس النواب.
ولفتت الدراسة التي نشرها “معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى” إلى أن “المصارف أودعت في مصرف لبنان حوالى 85 مليار دولار، ولكن عند التخلف عن السداد اتضح أنه لم يتبقَّ من احتياطات البنك المركزي سوى 35 مليار دولار، وبدلاً من إعادة هذه الأموال إلى المودعين زاد البنك المركزي الطين بلة بالنسبة إلى اللبنانيين عندما أنفق معظم الأموال لدعم الليرة وشراء الوقود والبضائع التي ذهب معظمها إلى سوريا من طريق التهريب”.
كما أشارت إلى استفادة الأكثرية النيابية المؤلفة من “حزب الله” وحركة “أمل” و”التيار الوطني الحر” من تخلف حكومة دياب عن سداد الديون، وإفشال خطة شركة “لازارد” للتعافي الاقتصادي؛ إذ تثبت الأرقام أن الاقتصاد بات قائماً على “وقف التعامل مع المصارف”، ففي يناير 2020 أحصي 2.8 مليون حساب مصرفي، وانخفض الرقم إلى النصف بحلول يونيو 2022.
كما أظهرت مكانة شركات تحويل الأموال في الاقتصاد النقدي، إذ حلت أربع شركات مكان 60 مصرفاً، وهي تحظى بغطاء سياسي من قِبل أحزاب السلطة، ولا تحقق أرباحاً من التحويلات وحسب وإنما من مبادرة “مصرف لبنان” لتحصيل الأموال من سوق التجزئة في ظل نقص احتياطات الدولار.
ووفقا للدراسة فإنه يبدو مستغرباً من الناحية العلمية دفع المصرف المركزي عمولات لشركات تحويل الأموال في مقابل تحصيل دولارات التجزئة، ولكن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وجد طريقة للاستحواذ على التحويلات أو الدولارات الفريش من الخارج من خلال العمل مع هذه الشركات كما لو كانت شركات صيرفة، إذ وصلت العمولات من مصرف لبنان إلى 3.8 في المئة عن كل دولار.
وتلفت الدراسة إلى أنه عند فرض عقوبات أميركية على شركة CTEX استبدلت الشركة بشخصية أخرى مهمتها جمع الدولارات من السوق وتزويد مصرف لبنان بها، الذي لجأ أيضاً إلى السوق السوداء وشركات الصيرفة لسد الفجوة لديه بالدولار.
وأقام “حزب الله” شبكة من مكاتب الصيرفة التي يديرها أشخاص من الطائفة الشيعية مقربون منه ومن حركة “أمل” لتصبح شبكة الصيرفة الأكبر في لبنان، وتكشف الدراسة عن نوع من توزيع الأدوار لأنه “في الاقتصاد النقدي اللبناني يتحكم حلفاء “حزب الله” المسيحيون بالتحويلات الخارجية والعملة الصعبة القادمة من الخارج، بينما يدير “حزب الله” وحركة “أمل” مكاتب الصيرفة.
وفي الـ 19 من أبريل 2023 أصدر مصرف لبنان تعميماً حمل الرقم (165) يطلب من المصارف فتح حسابات لديه بـ “الفريش دولار” من أجل تسوية التعاملات بالدولار محلياً، ووفقاً لـ “مصرف لبنان” فإن التعميم يهدف إلى تقييد الاقتصاد النقدي بالدولار وإعادة بعض هذه الأموال النقدية للنظام المصرفي، وتتحفظ الدراسة على هذا الرأي لأنه قد يعزز هذا الإجراء غسل الأموال في حال الدولارات النقدية المشبوهة، ومن دون رقابة البنوك المراسلة في الخارج يمكن للجهات الفاعلة إخفاء غسل الأموال والتعاملات المشبوهة بسهولة أكبر من طريق التسوية المحلية التي يقترحها التعميم.
وتعود الدراسة لعام 2021 عندما اخترقت مجموعة من المقرصنين spiderz حسابات مؤسسات “القرض الحسن”، وأثبتت البيانات أن المؤسسة منحت قروضاً لمقترضين من أعضائها ومن غير أعضائها، كما حصلت المؤسسة في ديسمبر (كانون الأول) 2019 على قرض مؤجل بقيمة 450 مليون دولار، فيما أصدرت في العام نفسه قروضاً لـ 20 ألف مستفيد بقيمة 475 مليون دولار، كما أودع في حسابها 1.5 مليار دولار ذلك العام، وكانت 64 في المئة من الودائع مضمونة بودائع الذهب المقيمة من دون قيمتها الفعلية.
وأوضحت الدراسة عدم إمكان تتبع مصدر الودائع النقدية بما أن مؤسسة “القرض الحسن” ليست مصرفاً حقيقياً يخضع للقواعد والأنظمة المصرفية، ومنذ فبراير 2023 نشرت المؤسسة إعلانات تدعي من خلالها أنها قدمت قروضاً بقيمة 4 مليارات دولار، وتسأل القطاع المصرفي اللبناني بطريقة استفزازية “إنتو شو عملتو؟” على حد وصف الباحثتين، اللتين تلفتان إلى توسع المؤسسة باتجاه البيئات المسيحية والدرزية في مناطق مثل “سوق الغرب”.
كما أشارت إلى اتساع نطاق الخدمات العامة التي يقوم بها الحزب من خلال المؤسسة، والتي لا تقتصر على العمل المصرفي وإنما بدأت تشمل “الترويج لقرض الطاقة الشمسية” للألواح التي تصنعها الشركات الصينية العاملة في لبنان، وكذلك الاستثمار في مولدات الطاقة الخاصة التي يشغلها محسوبون على “حزب الله” وحركة “أمل” في المناطق الشيعية، وتأمل الدراسة أن تأتي البنية التحتية والتمويل من “حزب الله” يعودان بالفائدة في نهاية المطاف على عمليات الحزب”.
وتوجه الدراسة الأنظار إلى سوق الاستثمار في العقارات وإقبال رجال الأعمال التابعين للحزب على شراء العقارات في أحياء بيروت الفخمة، بما في ذلك وسط بيروت، وكذلك تحكمه بشبكة استيراد سلع وأجهزة إلكترونية باهظة الثمن مثل الهواتف الذكية.
كما تتهم الحزب بأنه “ينشط في تجارة الكبتاغون، البديل غير المشروع للـ “أمفيتامين” مستغلاً سيطرته على مرافئ لبنان ومطاره ومرافئ سوريا”.
وتخلص الدراسة إلى أنه “لا تمتلك اليوم أي جهة فاعلة رئيسة في لبنان، لا “حزب الله” ولا النخبة السياسية الفاسدة ولا البنك المركزي ولا المصارف التجارية، أي مصلحة في تطبيق الإصلاحات الممنهجة، ولذلك أوصت بتنفيذ عقوبات إضافية والضغط على الحكومة اللبنانية لمقاضاة حاكم مصرف لبنان والمسؤولين عن الأزمة المالية، والضغط على الحكومة اللبنانية لضمان عدم تحالف خلف سلامة مع “حزب الله” أو أي طرف، وطلب التحقيق مع دعاة التخلف الشديد والطويل الأمد عن السداد، وكذلك تطبيق إجراءات أكثر صرامة لمنع مسؤولي القطاع المصرفي اللبنانيين المتواطئين من حماية أنفسهم من التحقيقات الدولية، إضافة إلى إنشاء مستويات مراقبة إضافية للدولارات العراقية المصدر، وتقديم الحصانة لمن هم على استعداد للإدلاء بشهاداتهم في الخارج، مع تنفيذ عقوبات إضافية تستهدف شركات تحويل الأموال المتعاملة مع مصرف لبنان، والضغط على الحكومة اللبنانية لمقاضاة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ومسؤولين آخرين، والضغط على الحكومة اللبنانية لضمان عدم تحالف خلف سلامة مع “حزب الله” أو أي طرف آخر”.
وأوصت بتقديم الحصانة لمن هم على استعداد للإدلاء بشهاداتهم في الخارج، فعامل الخوف الناجم عن العنف والاغتيالات وانعدام المساءلة أسهم في ثني اللبنانيين عن التحدث علناً والكشف عن معلومات موثقة عن الفساد، والعمليات المالية المريبة، وبإمكان المسؤولين السابقين والحاليين الإسهام بشكل كبير في الجهود المستمرة لفضح أقرانهم الفاسدين ومحاسبتهم، ولكنهم يحتاجون إلى حصانة في الخارج للتحدث.