مع اشتداد القتال لأكثر من شهرين وتفاقم الاشتباكات العنيفة وكسر الهدن السابقة، كشفت الهدنة الحالية في السودان وجود كارثة طبيعية على الأبواب، إذ تشهد البنى التحتية لمنظومة البيئة والصحة العامة، لا سيما في مجال جمع النفايات ومصارف ومحطات معالجة مياه الصرف الصحي، تدهوراً وتداعياً مطرداً، ويراكم استمرار القتال وتجدد موجات المعارك جثثاً إضافية كل يوم علاوة على تلك التي تحللت ولا تزال مبعثرة في الشوارع أو تحت الأنقاض، في وقت يتراجع فيه أداء المؤسسات الطبية جراء استمرار الاشتباكات، مما أدى إلى تصاعد التحذيرات وقرع ناقوس الخطر من هيئات ومنظمات عدة ومتخصصين من نذر كارثة بيئية خطرة تحدق بالعاصمة السودانية.
وهو ما حذر منه المتخصص البيئي والأمين العام للمجلس الأعلى للبيئة بالخرطوم بشرى حامد من أخطار كارثة بيئية كبيرة ومخيفة وغير مسبوقة تنتظر الخرطوم، على رأسها التسمم الذي ضرب أجواء كل الولاية وجعل الهواء مشبعاً بالتلوث الناتج من الحرائق الهائلة لأعداد كبيرة من المجمعات الصناعية، وما نتج منه من مواد كيماوية، فضلاً عن احتراق مخزونات الغاز والمواد البترولية الأخرى من ديزل وبنزين، متزامناً مع حرائق ضخمة أخرى ضربت معظم الأسواق الكبيرة في العاصمة.
وكشف حامد عن أن كل تلك الحرائق تضافرت كعوامل مدمرة للبيئة، مما زاد بشكل كبير من حدة تلوث الهواء في الخرطوم بدرجة مخيفة تفوق الحد الطبيعي المسموح به، بصورة غير مسبوقة، فضلاً عن السموم والدخان والأبخرة المسمومة الناتجة من الاستخدام الكثيف للأسلحة والقنابل والمقذوفات الثقيلة ومخلفاتها الصلبة الأخرى أيضاً، مشيراً إلى أن كل ذلك يترافق مع مضاعفات بيئية أخرى ناتجة من توقف منظومة الصرف الصحي الرئيسية بالولاية، والتي تعتمد عليها كل المحطات الفرعية الأخرى في تصريف مخلفات الصرف الصحي والمعالجة النهائية، مع تعطل المضخات الرافعة، مما تسبب في طفح كبير ووصول الصرف الصحي إلى مياه النيل من دون أن تتعرض للمعالجة النهائية اللازمة، مما يشكل خطورة كبيرة جداً تهدد بتلوث وتسمم مياه الشرب.
وأشار إلى أن هذا بات مهدداً حقيقياً لحياة الناس لتأثيره المباشر في كل منظومة السلسلة الغذائية للإنسان، بدءاً من مياه الشرب وكل المنتجات الغذائية من خضراوات وأحياء مائية كالأسماك وغيرها، وزاد من تعقيد الوضع، تعطل معظم محطات المياه التي تقوم بالتنقية ولجوء المواطنين مرغمين إلى التعاطي مع المياه من النيل بشكل مباشر.
وأضاف أمين المجلس الأعلى للبيئة بالخرطوم “انعدام خدمات النظافة جعل العاصمة مكباً كبيراً للنفايات، مما يؤدي إلى انتشارها في الشوارع بصورة غير مسبوقة، ويقود بدوره مع ارتفاع درجات الحرارة والرطوبة وحلول فصل الخريف إلى خلق بيئة مثالية للتوالد الكثيف للبعوض والذباب وكل نواقل الأمراض الوبائية الخطرة، وعلى رأسها الملاريا والكوليرا وغيرها، في ظل ظروف تهاوت وتداعت فيها منظومة النظام الصحي والعلاجي، مما يضفي مزيداً من التعقيد للمشكلة ويمنحها أبعاداً غاية في الخطورة ما لم يتم العمل على تداركها عاجلاً.
كما رجح أن يكون التأثير البيئي السلبي العميق على الخرطوم هذا العام تاريخياً في ظل موسم الأمطار والخريف، بخاصة بعد أن تواجه الموسم من دون أي استعدادات تذكر لتداعيات الأمطار، مضيفاً “كانت الخرطوم على رغم الاستعدادات تواجه مشكلات وكوارث كبيرة، فما بالك بالوضع في ظل غياب وانعدام أي استعدادات، إذ سيكون تراكم المياه وانتشار الأمراض الفتاكة كبيراً ومخيفاً وقاتلاً مع غياب المستشفيات، وذلك على رغم الجهود والمساعي التي يقوم بها والي ولاية الخرطوم المكلف، رغم صعوبة الحركة، لتدارك ما يمكن تداركه لاستمرار الحد الأدنى من الخدمات الصحة والعلاج والمياه والكهرباء.
وفي السياق نفسه، وصف الناشط البيئي عبدالرحيم العطايا، الأوضاع البيئية الكارثية التي خلفتها الحرب بأنها باتت أحد الدوافع الرئيسية للمطالبة بوقفها الفوري حفاظاً على ما تبقى من بنية الخرطوم التحتية، لأنها تمثل حرباً من نوع آخر، حيث تهدد الحياة بالولاية، كما أنها خطر على الإنسان والحيوان.
واعتبر العطايا، منبر جدة التفاوضي بمثابة خيط من الأمل لإنهاء الحرب، وما تبعها من تفاقم معاناة المواطنين الإنسانية بسبب فقدان الأمن وشح الخدمات مثل الكهرباء والمياه، وانعدام الخدمات الصحية والعلاجات والمواد الغذائية وتوقف المخابز، مشدداً على ضرورة انسحاب قوات الدعم السريع من منازل المواطنين والمرافق ذات الطابع الإنساني المحمية بموجب القانون الدولي الإنساني، وبحسب ما اتفق عليه في إعلان مبادئ جدة قبل هدنة اليوم الواحد الأخيرة.
وأشار الناشط إلى أن الخرطوم باتت تعاني أوضاعاً بيئية بالغة الخطورة، حيث ما زالت الجثث المتحللة متناثرة في الشوارع على رغم مجهودات جمعية الهلال الأحمر وبعض المتطوعين لدفن بعضها، في وقت تنعدم فيه الخدمات بمعظم أحياء العاصمة وتكدس النفايات داخل الأحياء وعلى الشوارع لدرجة باتت معها مياه الشرب مهددة بالتلوث البيئي.
وتابع العطايا القول: “مخلفات الحرب في مجملها تهدد بكارثة بيئية مؤذية ومعقدة، فمع الجثث المتحللة، تتفاقم بشكل يومي ومتزايد أزمة النفايات، وتتقاطع مع موسم الأمطار وخروج نحو 70 في المئة من المؤسسات الصحية والعلاجية عن الخدمة، وعجز المتبقي عن العمل بذات الكفاءة ونوعية الخدمة المطلوبة مع شح وتذبذب الإمداد الطبي”.
ونوه العطايا إلى أن تفاقم الوضع الصحي والبيئي، على هذا النحو الذي لا مثيل له، بسبب دمار البنى التحتية على قلتها، يزيد من احتمالات تسمم الهواء ومياه الشرب بصورة تهدد الإنسان والحيوان بولاية الخرطوم.
أوبئة على الأبواب
من جهته حذر المتخصص في الوبائيات عبدالرحيم بابكر من أن الكارثة البيئية والصحية بالخرطوم باتت وشيكة، مع غياب أي إجراءات عاجلة لحلها، منوهاً بأن استمرار هذا الوضع سيؤدي حتماً وقريباً جداً إلى ظهور وانتشار الأمراض الوبائية الخطرة، نتيجة توافر البيئة المثالية والمواتية لتكاثر النواقل كالذباب والبعوض وغيره، فضلاً عن الروائح الكريهة المنبعثة التي باتت تفوح بأجواء معظم الأحياء والمناطق.
وأوضح بابكر أنه وعلى رغم من شروع جمعية الهلال الأحمر وعدد من المتطوعين من الشباب، في عمليات جمع الجثث ودفنها، منذ أكثر من أسبوعين، فإنها لم تتمكن من الوصول إلى كثير منها في مناطق لا يمكن الوصول إليها، بسبب حدة المعارك المستمرة في مناطق ملتهبة بالعاصمة السودانية، مما تسبب في تحلل كثير منها في الشوارع والأزقة وتحت الأنقاض، مخلفة روائح كريهة وباتت نهباً للقطط والكلاب الضالة.
وأعلنت وزارة الداخلية عن آلية بالتنسيق مع الهلال الأحمر ومنظمات المجتمع المدني والمتطوعين، لجمع الجثث من الطرقات وحفظها بغرض التعامل مع الجثامين وحفظها في المشارح بالوسائل المتاحة، والعمل على إسعاف الجرحى والمصابين وترحيل الكوادر الطبية.
لذا أصدرت وزارة الصحة السودانية مصفوفة حول كيفية تعامل عامة المواطنين مع جثث الحرب، تضمنت إرشادات وتوجيهات، حيث طالبت المواطنين بارتداء كمامات وملابس واقية أثناء التعامل مع الجثث الملقاة على الطرقات، وضرورة رش كل أي جثة متعفنة بالمتوفر من مبيدات في المنطقة، ثم كتابة رقم لكل جثة على قطعة كرتون أو أي ورق مقوى كديباجات، ووضعها بالقرب منها وتصويرها من اتجاهات متعددة.
وحذرت إرشادات الوزارة من مغبة محاولة نزع الملابس من الجثث، وضرورة دفن كل جثة بشكل منفرد، مع كتابة الرقم التعريفي الخاص لها، على أن يوضع داخل قارورة أو إناء بلاستيكي صغير يتم دفنه معها، فضلاً عن وضع شاهد (علامة) لكل قبر مكتوب عليه الرقم التعريفي للجثة، منوهة إلى أهمية تجميع هذه البيانات وتسليمها لأي من مكاتبها في أي منطقة في السودان.
واندلع الصراع الدامي على السلطة في السودان يوم 15 إبريل وتسبب في أزمة إنسانية كبيرة نزح خلالها أكثر من 2.2 مليون شخص داخل البلاد وفر 400 ألف إلى دول الجوار، كما أنه يهدد بزعزعة استقرار المنطقة بأكملها، وكانت هدن سابقة فشلت في وقف الصراع الدامي الذي بدأ في السودان منتصف إبريل الماضي، بين الجيش وقوات الدعم السريع.