وسط استمرار مشهد الدمار والخراب جراء الحرب المستمرة في السودان لأكثر من عامين على التوالي، فقد اختار الشعب السوداني أن يتشبّثوا ببارقة أمل تُضيء أيامهم المظلمة، عبر إحياء ذكرى المولد النبوي الشريف.
وبينما تتواصل المعارك على أطراف المدن، ازدانت الساحات الشعبية بالأنوار والمجالس الروحانية، في صورة تعبّر عن قدرة المجتمع على صناعة الفرح رغم قسوة الواقع.
طقوس متجذّرة عبر القرون
ووفقًا لوسائل إعلام محلية، فإن الاحتفالات بالمولد في السودان ليس وليد اللحظة، بل هو تقليد ضارب في التاريخ ارتبط بالطرق الصوفية الكبرى كالختمية والقادرية والتيجانية.
تبدأ الاستعدادات عادة قبل أسابيع من الثاني عشر من ربيع الأول، حيث تنطلق حلقات الذكر والمدائح، وتُقام الزينات، وتُعرض الحلوى الشعبية المعروفة مثل السمسمية والفولية.
كما أن الأطفال يتسابقون لاقتناء “حصان المولد” و”عروس السكر”، فيما تجوب مواكب “الزفة” الشوارع مرددة التهليل والابتهالات، فتتحول المناسبة إلى كرنفال شعبي وديني في آن واحد.
عودة المولد رغم الحرب
هذا العام، ورغم النزوح وانقطاع الخدمات، عادت بعض المظاهر إلى ساحات أم درمان والخرطوم ومدن أخرى. صحيح أنّ الأعداد أقل، والزينة محدودة مقارنة بالسنوات الماضية، لكن مجرّد إقامة الاحتفال يحمل دلالات رمزية قوية، إنه إعلان عن تمسك السودانيين بعاداتهم، ورسالة بأن الحرب مهما طال أمدها لن تلغي مساحات البهجة.
الأمل وسط الركام
المشهد في ميدان الخليفة بأم درمان كان دليلاً واضحًا على هذه الروح. العائلات جاءت بأطفالها لتذوّقهم حلاوة المولد، بعضهم بحث عن الطمأنينة في حلقات الذكر، وآخرون اكتفوا بالمشاركة في الأهازيج.
كما أن النساء أطلقن الزغاريد، والشباب انخرطوا في الأناشيد، بينما الأطفال حملوا حلوى السكر بألوانها الزاهية. بدا الاحتفال وكأنه مساحة مصغّرة للحياة، تقف في مواجهة أصوات المدافع.
دلالة اجتماعية وروحية
لا يقتصر المولد في السودان على كونه طقسًا دينيًا، بل يتجاوز ذلك ليصبح فعلاً اجتماعيًا يعكس وحدة الناس وتلاحمهم.
في هذه الساحات يلتقي شيوخ الطرق الصوفية مع الباعة الصغار، والنساء مع الرجال، والأطفال مع الشيوخ، في صورة جامعة تختصر معنى التضامن الشعبي.
الباحثون الاجتماعيون يرون أن هذه الطقوس تمثل “آلية مقاومة” تحفظ للمجتمع تماسكه وتمنحه شعورًا بالاستمرار في وجه الانقسام والخراب.
خصوصية سودانية
الطرق الصوفية، التي لعبت عبر التاريخ دورًا محوريًا في الحياة الروحية والسياسية، تضفي على المولد في السودان نكهة خاصة.
حلقات المديح والسيرة النبوية ما تزال تحتل مكانة مركزية، وتمنح الأجواء روحانية مميزة. مشاركة الأطفال ببراءتهم وبهجتهم تضيف بعدًا آخر، إذ تتحوّل المناسبة إلى لحظة عائلية تبعث على الطمأنينة وتجدّد ارتباط الأجيال بالذاكرة الجماعية.
بين الحرب والفرح
مشهد الزغاريد الممتزجة بأصوات الطبول والمدائح في قلب أم درمان بدا كأنه لوحة متناقضة: في الخارج دويّ الرصاص، وفي الداخل أهازيج الفرح.
ولكن تلك المفارقة تلخص حقيقة المجتمع السوداني اليوم؛ شعب يحاول صناعة فسحة نور وسط الظلام. فالمولد لم يكن مجرد مناسبة دينية، بل نافذة أمل، ورسالة صمود، وشهادة على أن الحياة أقوى من الحرب.